وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ شَرَحَ كيفية ذلك التساؤل فقال: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ وَهَذَا قَوْلُ الْأَتْبَاعِ لِمَنْ دَعَاهُمْ إِلَى الضَّلَالَةِ، وَفِي تَفْسِيرِ اليمين وجوه الأول: أن لفظ اليمين هاهنا اسْتِعَارَةٌ عَنِ الْخَيْرَاتِ وَالسَّعَادَاتِ، وَبَيَانُ كَيْفِيَّةِ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ، أَنَّ الْجَانِبَ الْأَيْمَنَ أَفْضَلُ مِنَ الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: اتِّفَاقُ الْكُلِّ عَلَى أَنَّ أَشْرَفَ الْجَانِبَيْنِ هُوَ الْيَمِينُ وَالثَّانِي: لَا يُبَاشِرُونَ الْأَعْمَالَ الشَّرِيفَةَ إِلَّا بِالْيَمِينِ مِثْلَ مُصَافَحَةِ الْأَخْيَارِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَمَا عَلَى الْعَكْسِ مِنْهُ يُبَاشِرُونَهُ بِالْيَدِ الْيُسْرَى الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَفَاءَلُونَ وَكَانُوا يَتَيَمَّنُونَ بِالْجَانِبِ الْأَيْمَنِ وَيُسَمُّونَهُ بِالْبَارِحِ الرَّابِعُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحِبُّ التَّيَامُنَ فِي كُلِّ شَيْءٍ الْخَامِسُ: أَنَّ الشَّرِيعَةَ حَكَمَتْ بِأَنَّ الْجَانِبَ الْأَيْمَنَ لِكَاتِبِ الْحَسَنَاتِ وَالْأَيْسَرَ لِكَاتِبِ السَّيِّئَاتِ السَّادِسُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَ الْمُحْسِنَ أَنْ يُؤْتَى كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، وَالْمُسِيءَ أَنْ يُؤْتَى كِتَابَهُ بِيَسَارِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْجَانِبَ الْأَيْمَنَ أَفْضَلُ مِنَ الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا جَرَمَ، اسْتُعِيرَ لَفْظُ الْيَمِينِ لِلْخَيْرَاتِ وَالْحَسَنَاتِ وَالطَّاعَاتِ، فَقَوْلُهُ: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ يَعْنِي أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْدَعُونَنَا وَتُوهِمُونَ لَنَا أَنَّ مَقْصُودَكُمْ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى تِلْكَ الْأَدْيَانِ نُصْرَةُ الْحَقِّ وَتَقْوِيَةُ الصِّدْقِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي التَّأْوِيلِ أَنَّهُ يُقَالُ فُلَانٌ يَمِينُ فُلَانٍ، إِذَا كَانَ عِنْدَهُ بِالْمَنْزِلَةِ الْحَسَنَةِ، فَقَالَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ لِأَئِمَّتِهِمُ الَّذِينَ أَضَلُّوهُمْ وَزَيَّنُوا لَهُمُ الْكُفْرَ: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْدَعُونَنَا وَتُوهِمُونَ لَنَا، أَنَّنَا عِنْدَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْيَمِينِ، أَيْ بِالْمَنْزِلَةِ الْحَسَنَةِ، فَوَثِقْنَا بِكُمْ وَقَبِلْنَا عَنْكُمْ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ أَئِمَّةَ الْكُفَّارِ كَانُوا قَدْ حَلَفُوا لِهَؤُلَاءِ الْمُسْتَضْعَفِينَ أَنَّ مَا يَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِ هُوَ الْحَقُّ، فَوَثِقُوا بِأَيْمَانِهِمْ وَتَمَسَّكُوا بِعُهُودِهِمُ الَّتِي عَهِدُوهَا لَهُمْ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ: كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ أَيْ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَوَاثِيقِ وَالْأَيْمَانِ الَّتِي قَدَّمْتُمُوهَا لَنَا الْوَجْهُ الرَّابِعُ:
أَنَّ لَفْظَ الْيَمِينِ مُسْتَعَارٌ مِنَ الْقُوَّةِ وَالْقَهْرِ، لِأَنَّ الْيَمِينَ مَوْصُوفَةٌ بِالْقَهْرِ وَبِهَا يَقَعُ الْبَطْشُ، وَالْمَعْنَى أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْقُوَّةِ وَالْقَهْرِ، وَتَقْصِدُونَنَا عَنِ السُّلْطَانِ وَالْغَلَبَةِ حَتَّى تَحْمِلُونَا عَلَى الضَّلَالِ وَتُعَيِّرُونَا عَلَيْهِ، ثُمَّ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الرُّؤَسَاءِ أَنَّهُمْ أَجَابُوا الْأَتْبَاعَ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُمْ بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ يَعْنِي أَنَّكُمْ مَا كُنْتُمْ مَوْصُوفِينَ بِالْإِيمَانِ حَتَّى يُقَالَ إِنَّا أَزَلْنَاكُمْ عَنْهُ الثَّانِي: قَوْلُهُمْ: وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ يَعْنِي لَا قُدْرَةَ لَنَا عَلَيْكُمْ حَتَّى نَقْهَرَكُمْ وَنُجْبِرَكُمْ الثَّالِثُ: بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ أَيْ ضَالِّينَ غَالِّينَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ الرَّابِعُ: قَوْلُهُمْ:
فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ عَنْ/ وُقُوعِنَا فِي الْعَذَابِ، فَلَوْ لَمْ يَحْصُلْ وُقُوعُنَا فِي الْعَذَابِ لَمَا كَانَ خَبَرُ اللَّهِ حَقًّا، بَلْ كَانَ بَاطِلًا، وَلَمَّا كَانَ خَبَرُ اللَّهِ أَمْرًا وَاجِبًا لَا جَرَمَ، كَانَ الْوُقُوعُ فِي الْعَذَابِ الْأَلِيمِ لَازِمًا، قَالَ مُقَاتِلٌ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِ اللَّهِ لِإِبْلِيسَ: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: ٨٥] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا لَذائِقُونَ يَعْنِي لَمَّا وَجَبَ أَنْ يَحِقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا وَجَبَ أَنْ نَكُونَ ذَائِقِينَ لِهَذَا الْعَذَابِ الْخَامِسُ: قَوْلُهُمْ: فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ وَالْمَعْنَى أَنَّا إِنَّمَا أَقْدَمْنَا عَلَى إِغْوَائِكُمْ لِأَنَّا كُنَّا مَوْصُوفِينَ فِي أَنْفُسِنَا بِالْغَوَايَةِ، وَفِيهِ دَقِيقَةٌ أُخْرَى، كَأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنِ اعْتَقَدْتُمْ أَنَّ غَوَايَتَكُمْ بِسَبَبِ إِغْوَائِنَا فَغَوَايَتُنَا إِنْ كَانَتْ بِسَبَبِ إِغْوَاءِ غَاوٍ آخَرَ وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَذَلِكَ مُحَالٌ، فَعَلِمْنَا أَنَّ حُصُولَ الْغَوَايَةِ وَالرَّشَادِ لَيْسَ مِنْ قِبَلِنَا، بَلْ مِنْ قِبَلِ غَيْرِنَا، وَذَلِكَ الْغَيْرُ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ فِيمَا قَبْلُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا وَلَمَّا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى كَلَامَ الْأَتْبَاعِ لِلرُّؤَسَاءِ وَكَلَامَ الرُّؤَسَاءِ لِلْأَتْبَاعِ قَالَ بَعْدَهُ: فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ يَعْنِي فَالْمَتْبُوعُ وَالتَّابِعُ وَالْمَخْدُومُ وَالْخَادِمُ مُشْتَرِكُونَ فِي الْوُقُوعِ فِي الْعَذَابِ كَمَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute