للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الدُّنْيَوِيَّةُ أَوِ الدِّينِيَّةُ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَذَكَرُوا فِيهِ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: رَوَى الْوَاحِدِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ يَحْرُسُهُ كُلَّ لَيْلَةٍ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ أَلْفَ رَجُلٍ، فَإِذَا أَصْبَحَ قِيلَ ارْجِعُوا فَقَدْ رَضِيَ عَنْكُمْ نَبِيُّ اللَّهِ، وَزَادَ آخَرُونَ فَذَكَرُوا أَرْبَعِينَ أَلْفًا. قَالُوا وَكَانَ أَشَدَّ مُلُوكِ الْأَرْضِ سُلْطَانًا، وَعَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا ادَّعَى عِنْدَ دَاوُدَ عَلَى رَجُلٍ أَخَذَ مِنْهُ بَقَرَةً فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَقَالَ دَاوُدُ لِلْمُدَّعِي أَقِمِ الْبَيِّنَةَ فَلَمْ يُقِمْهَا، فَرَأَى دَاوُدُ فِي مَنَامِهِ أَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُهُ أَنْ يَقْتُلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَثَبَتَ دَاوُدُ وَقَالَ هُوَ مَنَامٌ فَأَتَاهُ الْوَحْيُ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَنْ تَقْتُلَهُ فَأَحْضَرَهُ وَأَعْلَمَهُ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِقَتْلِهِ، فَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ صَدَقَ اللَّهُ إِنِّي كُنْتُ قَتَلْتُ أَبَا هَذَا الرَّجُلِ غِيلَةً فَقَتَلَهُ دَاوُدُ.

فَهَذِهِ الْوَاقِعَةُ شَدَّدَتْ مُلْكَهُ، وَأَمَّا الْأَسْبَابُ الدِّينِيَّةُ الْمُوجِبَةُ لِهَذَا الشَّدِّ فَهِيَ الصَّبْرُ وَالتَّأَمُّلُ التَّامُّ وَالِاحْتِيَاطُ الْكَامِلُ.

الصِّفَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْلُهُ: وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [الْبَقَرَةِ: ٢٦٩] وَاعْلَمْ أَنَّ الْفَضَائِلَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ النَّفْسَانِيَّةُ وَالْبَدَنِيَّةُ وَالْخَارِجِيَّةُ، وَالْفَضَائِلُ النَّفْسَانِيَّةُ مَحْصُورَةٌ فِي قِسْمَيْنِ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ، أَمَّا الْعِلْمُ فَهُوَ أَنْ تَصِيرَ النَّفْسُ بِالتَّصَوُّرَاتِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالتَّصْدِيقَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ بِمُقْتَضَى الطَّاقَةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَأَمَّا الْعَمَلُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ آتَيًا بِالْعَمَلِ الْأَصْلَحِ الْأَصْوَبِ بِمَصَالِحِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَهَذَا هُوَ الْحِكْمَةُ وَإِنَّمَا سمي هذا بالحكمة لأن اشتقاق الحكمة من إحكام الأمور وتقويتها وتبعيدها عن أسباب الرخاوة والضعف، والاعتقادات الصائبة الصَّحِيحَةِ لَا تَقْبَلُ النَّسْخَ وَالنَّقْضَ فَكَانَتْ فِي غَايَةِ الْإِحْكَامِ، وَأَمَّا الْأَعْمَالُ الْمُطَابِقَةُ لِمَصَالِحِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَإِنَّهَا وَاجِبَةُ الرِّعَايَةِ وَلَا تَقْبَلُ النَّقْضَ وَالنَّسْخَ، فَلِهَذَا السَّبَبِ سَمَّيْنَا تِلْكَ الْمَعَارِفَ وَهَذِهِ الْأَعْمَالَ بِالْحِكْمَةِ.

الصِّفَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْلُهُ: وَفَصْلَ الْخِطابِ وَاعْلَمْ أَنَّ أَجْسَامَ هَذَا الْعَالَمِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا: مَا تَكُونُ خَالِيَةً عَنِ الْإِدْرَاكِ وَالشُّعُورِ وَهِيَ الْجَمَادَاتُ وَالنَّبَاتَاتُ وَثَانِيهَا: الَّتِي يَحْصُلُ لَهَا إِدْرَاكٌ وَشُعُورٌ وَلَكِنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى تَعْرِيفِ غَيْرِهَا الْأَحْوَالَ الَّتِي عَرَفُوهَا فِي الْأَكْثَرِ وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ جُمْلَةُ الْحَيَوَانَاتِ سِوَى الْإِنْسَانِ وَثَالِثُهَا: الَّذِي يَحْصُلُ لَهُ إِدْرَاكٌ وَشُعُورٌ وَيَحْصُلُ عِنْدَهُ قُدْرَةٌ عَلَى تَعْرِيفِ غَيْرِهِ الْأَحْوَالَ الْمَعْلُومَةَ لَهُ، وَذَلِكَ هُوَ الْإِنْسَانُ وَقُدْرَتُهُ عَلَى تَعْرِيفِ الغير الْأَحْوَالَ الْمَعْلُومَةَ عِنْدَهُ بِالنُّطْقِ وَالْخِطَابِ، ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ مُخْتَلِفُونَ فِي مَرَاتِبِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّعْبِيرِ عَمَّا فِي الضَّمِيرِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ إِيرَادُ الْكَلَامِ الْمُرَتَّبِ الْمُنْتَظِمِ بَلْ يَكُونُ مُخْتَلِطَ الْكَلَامِ مُضْطَرِبَ الْقَوْلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ التَّرْتِيبُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ قَادِرًا عَلَى ضَبْطِ الْمَعْنَى وَالتَّعْبِيرِ عَنْهُ إِلَى/ أَقْصَى الْغَايَاتِ، وَكُلُّ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ الْقُدْرَةُ فِي حَقِّهِ أَكْمَلَ كَانَتِ الْآثَارُ الصَّادِرَةُ عَنِ النَّفْسِ النُّطْقِيَّةِ فِي حَقِّهِ أَكْمَلَ، وَكُلُّ مَنْ كَانَتْ تِلْكَ الْقُدْرَةُ فِي حَقِّهِ أَقَلَّ كَانَتْ تِلْكَ الْآثَارُ أَضْعَفَ، وَلَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى كَمَالَ حَالِ جَوْهَرِ النَّفْسِ النُّطْقِيَّةِ الَّتِي لِدَاوُدَ بِقَوْلِهِ: وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ أَرْدَفَهُ بِبَيَانِ كَمَالِ حَالِهِ فِي النُّطْقِ وَاللَّفْظِ وَالْعِبَارَةِ فَقَالَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ وَهَذَا التَّرْتِيبُ فِي غَايَةِ الْجَلَالَةِ، وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ فَسَّرَ ذَلِكَ بِأَنَّ دَاوُدَ أَوَّلُ مَنْ قَالَ فِي كَلَامِهِ أَمَّا بَعْدُ، وَأَقُولُ حَقًّا إِنَّ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ أَمْثَالَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ فَقَدْ حُرِمُوا الْوُقُوفَ عَلَى مَعَانِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى حِرْمَانًا عَظِيمًا «١» وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ الْمُرَادُ مَعْرِفَةُ الْأُمُورِ الَّتِي بِهَا يَفْصِلُ بَيْنَ الْخُصُومِ وَهُوَ طَلَبُ الْبَيِّنَةِ وَالْيَمِينِ فَبَعِيدٌ أَيْضًا، لِأَنَّ فَصْلَ الْخِطَابِ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى التَّعْبِيرِ عَنْ كُلِّ مَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ ويحضر في الخيال،


(١) يقصد المؤلف بعبارته هذه الذين فسروا إيتاء داود الحكمة بأنه أول من قال أما بعد، لبعدهم عن الفهم وعن الصواب، وقد روي أن أول من قال أما بعد هو قس بن ساعدة الإيادي الخطيب المشهور.

<<  <  ج: ص:  >  >>