قَوْمَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَظْهَرُوا السَّفَاهَةَ حيث قالوا: هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ [ص: ٤] وَاسْتَهْزَءُوا بِهِ حَيْثُ قَالُوا: رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ [ص: ١٦] فَقَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: اصْبِرْ يَا مُحَمَّدُ عَلَى سَفَاهَتِهِمْ وَتَحَمَّلْ وَتَحَلَّمْ وَلَا تُظْهِرِ الْغَضَبَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ، فَهَذَا الذِّكْرُ إِنَّمَا يَحْسُنُ إِذَا كَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ صَبَرَ عَلَى إِيذَائِهِمْ وَتَحَمَّلَ سَفَاهَتَهُمْ وَحَلِمَ وَلَمْ يُظْهِرِ الطَّيْشَ وَالْغَضَبَ، وَهَذَا الْمَعْنَى إِنَّمَا يَحْصُلُ إِذَا حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، أَمَّا إِذَا حَمَلْنَاهَا عَلَى مَا ذَكَرُوهُ صَارَ الْكَلَامُ مُتَنَاقِضًا فَاسِدًا وَالرَّابِعُ: أَنَّ تِلْكَ الرِّوَايَةَ إِنَّمَا تَتَمَشَّى إِذَا قُلْنَا الْخَصْمَانِ كَانَا مَلَكَيْنِ، وَلَمَّا كَانَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَمَا كَانَ بَيْنَهُمَا مُخَاصَمَةٌ وَمَا بَغَى أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ كَانَ قَوْلُهُمَا خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ كَذِبًا، فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِشَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا: إِسْنَادُ الْكَذِبِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ وَالثَّانِي: أَنْ يُتَوَسَّلَ بِإِسْنَادِ الْكَذِبِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ إِلَى إِسْنَادِ أَفْحَشِ الْقَبَائِحِ إِلَى رَجُلٍ كَبِيرٍ مِنْ أَكَابِرِ الْأَنْبِيَاءِ، فَأَمَّا إِذَا حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا اسْتَغْنَيْنَا عَنْ إِسْنَادِ الْكَذِبِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ، وَعَنْ إِسْنَادِ الْقَبِيحِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ، فَكَانَ قَوْلُنَا أَوْلَى، فَهَذَا مَا عِنْدَنَا فِي هَذَا الْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَسْرَارِ كَلَامِهِ، وَنَرْجِعُ الْآنَ إِلَى تَفْسِيرِ الْآيَاتِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْخَصْمُ مَصْدَرُ خَصَمْتُهُ أَخْصِمُهُ خَصْمًا، ثُمَّ يُسَمَّى بِهِ الِاثْنَانِ وَالْجَمْعُ وَلَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ، يُقَالُ هُمَا خَصْمٌ وَهُمْ خَصْمٌ، كَمَا يُقَالُ هُمَا عَدْلٌ وَهُمْ عَدْلٌ، وَالْمَعْنَى ذَوَا خصم وذوو خصم، وأريد بالخصم هاهنا الشَّخْصَانِ اللَّذَانِ دَخَلَا عَلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ يُقَالُ تَسَوَّرَتُ السُّورَ تَسَوُّرًا إِذَا عَلَوْتَهُ، وَمَعْنَى: تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ أَيْ أَتَوْهُ مِنْ سُورِهِ وَهُوَ أَعْلَاهُ، يُقَالُ تَسَوَّرَ فُلَانٌ الدَّارَ إِذَا أَتَاهَا مِنْ قِبَلِ سُورِهَا. وَأَمَّا الْمِحْرَابُ فَالْمُرَادُ مِنْهُ الْبَيْتُ الَّذِي كَانَ دَاوُدُ يَدْخُلُ فِيهِ وَيَشْتَغِلُ بِطَاعَةِ رَبِّهِ، وسمي ذلك البيت بالمحراب لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْمِحْرَابِ، كَمَا يُسَمَّى الشَّيْءُ بِأَشْرَفِ أجزائه، وهاهنا مَسْأَلَةٌ مِنْ عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَهِيَ أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ، وَهَؤُلَاءِ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ صِيغَةَ الْجَمْعِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ فِي/ أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ أحدها: قوله تعالى: إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ [ص: ٢١] ، وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: إِذْ دَخَلُوا، وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: مِنْهُمْ، وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: قالُوا لَا تَخَفْ فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ الْأَرْبَعَةُ كُلُّهَا صِيَغُ الْجَمْعِ، وَهُمْ كَانُوا اثْنَيْنِ بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ قَالُوا خَصْمَانِ، قَالُوا فَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ وَالْجَوَابُ: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَصْمَيْنِ جَمْعًا كَثِيرِينَ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْخَصْمَ إِذَا جُعِلَ اسْمًا فَإِنَّهُ لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ وَالْفَائِدَةُ فِيهِ أَنَّهُمْ رُبَّمَا تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ وَمَا دَخَلُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَالَ: إِذْ دَخَلُوا عليه دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ بَعْدَ التَّسَوُّرِ دَخَلُوا عَلَيْهِ، قال الفراء: وقد يجاء بإذ مَرَّتَيْنِ وَيَكُونُ مَعْنَاهُمَا كَالْوَاحِدِ، كَقَوْلِكَ ضَرَبْتُكَ إِذْ دَخَلْتَ عَلَيَّ إِذِ اجْتَرَأْتَ، مَعَ أَنَّهُ يَكُونُ وَقْتُ الدُّخُولِ وَوَقْتُ الِاجْتِرَاءِ وَاحِدًا، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَفَزِعَ مِنْهُمْ وَالسَّبَبُ أَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا رَآهُمَا قَدْ دَخَلُوا عَلَيْهِ لَا مِنَ الطَّرِيقِ الْمُعْتَادِ، عَلِمَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا دَخَلُوا عَلَيْهِ لِلشَّرِّ، فَلَا جَرَمَ فَزَعَ مِنْهُمْ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قالُوا لَا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: خَصْمَانِ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ نَحْنُ خَصْمَانِ.
المسألة الثانية: هاهنا قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُمَا كَانَا مَلَكَيْنِ نَزَلَا مِنَ السَّمَاءِ وَأَرَادَ تَنْبِيهَ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى قُبْحِ الْعَمَلِ الَّذِي أَقْدَمَ عَلَيْهِ وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا كَانَا إِنْسَانَيْنِ دَخَلَا عَلَيْهِ لِلشَّرِّ وَالْقَتْلِ، فَظَنَّا أَنَّهُمَا يَجِدَانِهِ خَالِيًا، فَلَمَّا رَأَيَا عِنْدَهُ جَمَاعَةً مِنَ الْخَدَمِ اخْتَلَقَا ذَلِكَ الْكَذِبِ لِدَفْعِ الشَّرِّ، وَأَمَّا الْمُنْكِرُونَ لِكَوْنِهِمَا مَلَكَيْنِ فَقَدِ احْتَجُّوا عَلَيْهِ بأنهما
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute