للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ اللَّيْثُ: النَّعْجَةُ الْأُنْثَى مِنَ الضَّأْنِ وَالْبَقَرَةِ الْوَحْشِيَّةِ وَالشَّاةِ الْجَبَلِيَّةِ، وَالْجَمْعُ النَّعَجَاتُ، وَالْعَرَبُ جَرَتْ عَادَتُهُمْ بِجَعْلِ النَّعْجَةِ وَالظَّبْيَةِ كِنَايَةً عَنِ الْمَرْأَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً أُنْثَى وَهَذَا يَكُونُ لِأَجْلِ التَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:

وَقالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ [النَّحْلِ: ٥١] ، ثُمَّ قَالَ: أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : أَكْفِلْنِيها حَقِيقَتُهُ اجْعَلْنِي أَكْفُلُهَا كَمَا أَكْفُلُ مَا تَحْتَ يَدِي وَعَزَّنِي غَلَبَنِي، يُقَالُ عَزَّهُ يَعِزُّهُ، وَالْمَعْنَى جَاءَنِي بِحِجَاجٍ لَمْ أَقْدِرْ أَنْ أُورِدَ عَلَيْهِ مَا أَوْرَدَهُ بِهِ، وَقُرِئَ وَعَازَنِي مِنَ الْمُعَازَةِ، وَهِيَ الْمُغَالَبَةُ، وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ هَذَيْنِ الْخَصْمَيْنِ كَانَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ زَعَمُوا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ النِّعَاجِ التَّمْثِيلُ، لِأَنَّ دَاوُدَ كَانَ تَحْتَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ امْرَأَةً وَلَمْ يَكُنْ لَأُورِيَا إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، فَذَكَرَتِ الْمَلَائِكَةُ تِلْكَ الْوَاقِعَةَ عَلَى سَبِيلِ الرَّمْزِ وَالتَّمْثِيلِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ أَيْ سُؤَالِ إِضَافَةِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ إِنْ رُمْتَ ذَلِكَ ضَرَبْنَا مِنْكَ هَذَا وَهَذَا، وَأَشَارَ إِلَى الْأَنْفِ وَالْجَبْهَةِ/ فَقَالَ: يَا دَاوُدُ أَنْتَ أَحَقُّ أَنْ نَضْرِبَ مِنْكَ هَذَا وَهَذَا، وَأَنْتَ فَعَلَتْ كَيْتَ وَكَيْتَ، ثُمَّ نَظَرَ دَاوُدُ فَلَمْ يَرَ أَحَدًا فَعَرَفَ الْحَالَ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ جَازَ لِدَاوُدَ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ بِمُجَرَّدِ قَوْلِ خَصْمِهِ؟ قُلْنَا ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا فَرَغَ الْخَصْمُ الْأَوَّلُ مِنْ كَلَامِهِ نَظَرَ دَاوُدُ إِلَى الْخَصْمِ الَّذِي لَمْ يَتَكَلَّمْ وَقَالَ لَئِنْ صَدَقَ لَقَدْ ظَلَمْتَهُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ كَانَ مَشْرُوطًا بِشَرْطِ كَوْنِهِ صَادِقًا فِي دَعْوَاهُ وَالثَّانِي: قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: لَمَّا ادَّعَى أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ اعْتَرَفَ الثَّانِي فَحَكَمَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ الِاعْتِرَافَ لِدَلَالَةِ ظَاهِرِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، كَمَا تَقُولُ أَمَرْتُكَ بِالتِّجَارَةِ فَكَسَبْتَ تُرِيدُ اتَّجَرْتَ فَكَسَبْتَ، وَقَالَ تَعَالَى: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ [الشُّعَرَاءِ: ٦٣] أَيْ فَضَرَبَ فَانْفَلَقَ، وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ أَنَّ الْخَصْمَ الَّذِي هَذَا شَأْنُهُ يَكُونُ قَدْ ظَلَمَكَ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ قَالَ اللَّيْثُ خَلِيطُ الرَّجُلِ مُخَالِطُهُ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْخُلَطَاءُ الشُّرَكَاءُ، فَإِنْ قِيلَ لم خص داود الخلطاء يبغي بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ مَعَ أَنَّ غَيْرَ الْخُلَطَاءِ قَدْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَالْجَوَابُ لَا شَكَّ أَنَّ الْمُخَالَطَةَ تُوجِبُ كَثْرَةَ الْمُنَازَعَةِ وَالْمُخَاصَمَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا إِذَا اخْتَلَطَا اطَّلَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى أَحْوَالِ الْآخَرِ فَكُلُّ مَا يَمْلِكُهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ النَّفِيسَةِ إِذَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ عَظُمَتْ رَغْبَتُهُ فِيهِ، فَيُفْضِي ذَلِكَ إِلَى زِيَادَةِ الْمُخَاصَمَةِ وَالْمُنَازَعَةِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ خَصَّ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْخُلَطَاءَ بِزِيَادَةِ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ، ثُمَّ اسْتَثْنَى عَنْ هَذَا الْحُكْمِ الذين آمنوا وعملوا الصَّالِحَاتِ لِأَنَّ مُخَالَطَةَ هَؤُلَاءِ لَا تَكُونُ إِلَّا لِأَجْلِ الدِّينِ وَطَلَبِ السَّعَادَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ، فَلَا جَرَمَ مُخَالَطَتُهُمْ لَا تُوجِبُ الْمُنَازَعَةَ، وَأَمَّا الَّذِينَ تَكُونُ مُخَالَطَتُهُمْ لِأَجْلِ حُبِّ الدُّنْيَا لَا بُدَّ وأن تصير مخالطتهم سَبَبًا لِمَزِيدِ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا يَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَلَوْ كَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ بَغَى وَتَعَدَّى عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ لَزِمَ بِحُكْمِ فَتْوَى دَاوُدَ أن لا يكون هو مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ المراد من واقعة النعجة قصة داود قول بَاطِلٌ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَاعْلَمْ أَنَّ الْحُكْمَ بِقِلَّةِ أَهْلِ الْخَيْرِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، قَالَ تَعَالَى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سَبَأٍ: ١٣] وَقَالَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَحَكَى تَعَالَى عن إبليس

<<  <  ج: ص:  >  >>