للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تَعَالَى وَقَالَ: أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ، الرَّابِعُ:

رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ بَقِيَ أَيُّوبُ فِي الْبَلَاءِ ثَمَانَ عَشْرَةَ سَنَةً حَتَّى رَفَضَهُ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ إِلَّا رَجُلَيْنِ، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ لَقَدْ أَذْنَبَ أَيُّوبُ ذَنْبًا مَا أَتَى بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْعَالَمِينَ، وَلَوْلَاهُ مَا وَقَعَ فِي مِثْلِ هَذَا الْبَلَاءِ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ/ لِأَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ: لَا أَدْرِي مَا تَقُولَانِ غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ أَمُرُّ عَلَى الرَّجُلَيْنِ يَتَنَازَعَانِ فَيَذْكُرَانِ اللَّهَ تَعَالَى فَأَرْجِعُ إِلَى بَيْتِي فَأَنْفِرُ عَنْهُمَا كَرَاهِيَةَ أَنْ يُذْكَرَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَّا فِي الْحَقِّ»

الْخَامِسُ: قِيلَ إِنَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ تَخْدِمُ النَّاسَ فَتَأْخُذُ مِنْهُمْ قَدْرَ الْقُوتِ وَتَجِيءُ بِهِ إِلَى أَيُّوبَ، فَاتَّفَقَ أَنَّهُمْ مَا اسْتَخْدَمُوهَا الْبَتَّةَ وَطَلَبَ بَعْضُ النِّسَاءِ مِنْهَا قَطْعَ إِحْدَى ذُؤَابَتَيْهَا عَلَى أَنْ تُعْطِيَهَا قَدْرَ الْقُوتِ فَفَعَلَتْ، ثم في اليوم الثاني ففعلت مِثْلَ ذَلِكَ فَلَمْ يَبْقَ لَهَا ذُؤَابَةٌ. وَكَانَ أَيُّوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَحَرَّكَ عَلَى فِرَاشِهِ تَعَلَّقَ بِتِلْكَ الذُّؤَابَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَجِدِ الذُّؤَابَةَ وَقَعَتِ الْخَوَاطِرُ الْمُؤْذِيَةُ فِي قَلْبِهِ وَاشْتَدَّ غَمُّهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ: أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ، السَّادِسُ: قَالَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ: يَا رَبُّ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا اجْتَمَعَ عَلَيَّ أَمْرَانِ إِلَّا آثَرْتُ طَاعَتَكَ، وَلَمَّا أَعْطَيْتَنِي الْمَالَ كُنْتُ لِلْأَرَامِلِ قَيِّمًا، وَلِابْنِ السَّبِيلِ مُعِينًا، وَلِلْيَتَامَى أَبًا! فَنُودِيَ مِنْ غَمَامَةٍ يَا أَيُّوبُ مِمَّنْ كَانَ ذَلِكَ التَّوْفِيقُ؟ فَأَخَذَ أَيُّوبُ التُّرَابَ وَوَضْعَهُ عَلَى رَأْسِهِ، وَقَالَ مِنْكَ يَا رَبِّ ثُمَّ خَافَ مِنَ الْخَاطِرِ الْأَوَّلِ فَقَالَ: مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ وَقَدْ ذَكَرُوا أَقْوَالًا أُخْرَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ، وَسَمِعْتُ بَعْضَ الْيَهُودِ يَقُولُ: إِنَّ لِمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كِتَابًا مُفْرَدًا فِي وَاقِعَةِ أَيُّوبَ، وَحَاصِلُ ذَلِكَ الْكِتَابِ أَنَّ أَيُّوبَ كَانَ رَجُلًا كَثِيرَ الطَّاعَةِ لِلَّهِ تَعَالَى مُوَاظِبًا عَلَى الْعِبَادَةِ، مُبَالِغًا فِي التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ، ثُمَّ إِنَّهُ وَقَعَ فِي الْبَلَاءِ الشَّدِيدِ وَالْعَنَاءِ الْعَظِيمِ، فَهَلْ كَانَ ذَلِكَ لِحِكْمَةٍ أَمْ لَا؟ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِحِكْمَةٍ فَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ مَا أَتَى بِجُرْمٍ فِي الزَّمَانِ السَّابِقِ حَتَّى يَجْعَلَ ذَلِكَ الْعَذَابَ فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ الْجُرْمِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِكَثْرَةِ الثَّوَابِ فَالْإِلَهُ الْحَكِيمُ الرَّحِيمُ قَادِرٌ عَلَى إِيصَالِ كُلِّ خَيْرٍ وَمَنْفَعَةٍ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَوَسُّطِ تِلْكَ الْآلَامِ الطَّوِيلَةِ وَالْأَسْقَامِ الْكَرِيهَةِ. وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى فِي تِلْكَ الْأَمْرَاضِ وَالْآفَاتِ فَائِدَةٌ، وَهَذِهِ كَلِمَاتٌ ظَاهِرَةٌ جَلِيَّةٌ وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ ذِي الْجَلَالِ مُنَزَّهَةٌ عَنِ التَّعْلِيلِ بِالْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ، وَالْحَقُّ الصريح أنه لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٣] .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَفْظُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ النُّصْبَ وَالْعَذَابَ إِنَّمَا حَصَلَ مِنَ الشَّيْطَانِ ثُمَّ ذَلِكَ الْعَذَابُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ عِبَارَةٌ عَمَّا حَصَلَ فِي بَدَنِهِ مِنَ الْأَمْرَاضِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي عِبَارَةٌ عَنِ الْأَحْزَانِ الْحَاصِلَةِ فِي قَلْبِهِ بِسَبَبِ إِلْقَاءِ الْوَسَاوِسِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَيَلْزَمُ إِثْبَاتُ الْفِعْلِ لِلشَّيْطَانِ، وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ بِأَنَّا لَا نُنْكِرُ إِثْبَاتَ الْفِعْلِ لِلشَّيْطَانِ لَكِنَّا نَقُولُ فِعْلُ الْعَبْدِ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَعْلُومِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ فالمعنى أنه لما شكا مِنَ الشَّيْطَانِ، فَكَأَنَّهُ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُزِيلَ عَنْهُ تِلْكَ الْبَلِيَّةَ فَأَجَابَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ بِأَنْ قَالَ لَهُ: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ وَالرَّكْضُ هُوَ الدَّفْعُ الْقَوِيُّ بِالرِّجْلِ، وَمِنْهُ رَكْضُكَ الْفَرَسَ، وَالتَّقْدِيرُ قُلْنَا لَهُ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ، قِيلَ إِنَّهُ ضَرَبَ بِرِجْلِهِ تِلْكَ الْأَرْضَ فَنَبَعَتْ عَيْنٌ فَقِيلَ: هَذَا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ أَيْ هَذَا مَاءٌ تَغْتَسِلُ بِهِ فَيَبْرَأُ بَاطِنُكَ، وَظَاهِرُ اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ نَبَعَتْ لَهُ عَيْنٌ وَاحِدَةٌ مِنَ الْمَاءِ اغْتَسَلَ فِيهِ وَشَرِبَ مِنْهُ. وَالْمُفَسِّرُونَ قَالُوا نَبَعَتْ لَهُ/ عَيْنَانِ فَاغْتَسَلَ مِنْ إِحْدَاهُمَا وَشَرِبَ مِنَ الْأُخْرَى، فَذَهَبَ الدَّاءُ مِنْ ظَاهِرِهِ وَمِنْ بَاطِنِهِ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَقِيلَ ضَرَبَ بِرِجْلِهِ الْيُمْنَى فَنَبَعَتْ عَيْنٌ حَارَّةٌ فَاغْتَسَلَ مِنْهَا ثُمَّ بِالْيُسْرَى فَنَبَعَتْ عَيْنٌ بَارِدَةٌ فَشَرِبَ مِنْهَا.

<<  <  ج: ص:  >  >>