للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْغَسَاقُ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الَّذِي يُغْسَقُ مِنْ صَدِيدِ أَهْلِ النَّارِ، يُقَالُ:

غَسَقَتِ الْعَيْنُ إِذَا سَالَ دَمْعُهَا. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ هُوَ الْقَيْحُ الَّذِي يَسِيلُ مِنْهُمْ يَجْتَمِعُ فَيُسْقَوْنَهُ الثَّانِي: قِيلَ الْحَمِيمُ يَحْرِقُ بِحَرِّهِ، وَالْغَسَّاقُ يَحْرِقُ بِبَرْدِهِ، وَذَكَرَ الْأَزْهَرِيُّ: أَنَّ الْغَاسِقَ الْبَارِدُ، وَلِهَذَا قِيلَ لِلَّيْلِ غَاسِقٌ لِأَنَّهُ أَبْرَدُ مِنَ النَّهَارِ الثَّالِثُ: أَنَّ الْغَسَّاقَ الْمُنْتِنُ حَكَى الزَّجَّاجُ لَوْ قُطِرَتْ مِنْهُ قَطْرَةٌ فِي الْمَشْرِقِ لَأَنْتَنَتْ أَهْلَ الْمَغْرِبِ، وَلَوْ قُطِرَتْ مِنْهُ قَطْرَةٌ فِي الْمَغْرِبِ لَأَنْتَنَتْ أَهْلَ الْمَشْرِقِ الرَّابِعُ: قَالَ كَعْبٌ: الْغَسَّاقُ عَيْنٌ فِي جَهَنَّمَ يَسِيلُ إِلَيْهَا سُمُّ كُلِّ ذَاتِ حُمَةٍ مِنْ عَقْرَبٍ وَحَيَّةٍ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفَصٌ عَنْ عَاصِمٍ غَسَّاقٌ بِتَشْدِيدِ السِّينِ حَيْثُ كَانَ وَالْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ الِاخْتِيَارُ التَّخْفِيفُ لِأَنَّهُ إِذَا شَدَّدَ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ اسْمًا أَوْ صِفَةً، فَإِنْ كَانَ اسما فالأسماء لم تجيء عَلَى هَذَا الْوَزْنِ إِلَّا قَلِيلًا، وَإِنْ كَانَ صِفَةً فَقَدْ أُقِيمَ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ وَالْأَصْلُ أَنْ لَا يَجُوزَ ذَلِكَ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ أَبُو عُمَرَ وَأُخَرُ بِضَمِّ الْأَلْفِ عَلَى جَمْعِ أُخْرَى أَيْ أَصْنَافٌ أُخَرُ مِنَ الْعَذَابِ، وَهُوَ قِرَاءَةُ مُجَاهِدٍ وَالْبَاقُونَ آخَرُ عَلَى الْوَاحِدِ أَيْ عَذَابٌ آخَرُ، أَمَّا عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى فَقَوْلُهُ وَأُخَرُ أَيْ وَمَذُوقَاتٍ أُخَرُ مِنْ شَكْلِ هَذَا الْمَذُوقِ، أَيْ مِنْ مِثْلِهِ فِي الشِّدَّةِ وَالْفَظَاعَةِ، أَزْوَاجٌ أَيْ أَجْنَاسٌ، وَأَمَّا عَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ فَالتَّقْدِيرُ وَعَذَابٌ أَوْ مَذُوقٌ آخَرُ، وَأَزْوَاجٌ صِفَةٌ لِآخَرَ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضُرُوبًا أَوْ صِفَةً لِلثَّلَاثَةِ وَهُمْ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَقُرِئَ مِنْ شِكْلِهِ بِالْكَسْرِ وَهِيَ لُغَةٌ، وَأَمَّا الْغَنْجُ «١» فَبِالْكَسْرِ لَا غَيْرُ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ مَسْكَنَ الطَّاغِينَ وَمَأْكُولَهُمْ حَكَى أَحْوَالَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا أَحِبَّاءً لَهُمْ/ فِي الدُّنْيَا أَوَّلًا، ثُمَّ مَعَ الَّذِينَ كَانُوا أَعْدَاءً لَهُمْ فِي الدُّنْيَا ثَانِيًا أَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ قَوْلُهُ: هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا حِكَايَةُ كَلَامِ رُؤَسَاءِ أَهْلِ النَّارِ يَقُولُهُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ بِدَلِيلِ أَنَّ مَا حُكِيَ بَعْدَ هَذَا مِنْ أَقْوَالِ الْأَتْبَاعِ وَهُوَ قَوْلُهُ: قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا، وَقِيلَ إِنَّ قَوْلَهُ: هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ كَلَامُ الْخَزَنَةِ لِرُؤَسَاءِ الْكَفَرَةِ فِي أَتْبَاعِهِمْ، وَقَوْلَهُ: لَا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ كَلَامُ الرُّؤَسَاءِ، وَقَوْلُهُ: هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ أَيْ هَذَا جَمْعٌ كَثِيفٌ قَدِ اقْتَحَمَ مَعَكُمُ النَّارَ كَمَا كَانُوا قَدِ اقْتَحَمُوا مَعَكُمْ فِي الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ، وَمَعْنَى اقْتَحَمَ مَعَكُمُ النَّارَ أَيْ دَخَلَ النَّارَ فِي صُحْبَتِكُمْ، وَالِاقْتِحَامُ رُكُوبُ الشِّدَّةِ وَالدُّخُولُ فِيهَا، وَالْقَحْمَةُ الشِّدَّةُ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَا مَرْحَباً بِهِمْ دُعَاءٌ مِنْهُمْ عَلَى أَتْبَاعِهِمْ، يَقُولُ الرَّجُلُ لِمَنْ يَدْعُو لَهُ مَرْحَبًا أَيْ أَتَيْتَ رَحْبًا فِي الْبِلَادِ لَا ضيقا أَوْ رَحُبَتْ بِلَادُكَ رُحْبًا، ثُمَّ يَدْخُلُ عَلَيْهِ كَلِمَةُ لَا فِي دُعَاءِ السُّوءِ، وَقَوْلُهُ: بِهِمْ بيان للمدعو عليهم أنهم صالوا النَّارِ تَعْلِيلٌ لِاسْتِيجَابِهِمُ الدُّعَاءَ عَلَيْهِمْ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها [الْأَعْرَافِ: ٣٨] قَالُوا أَيِ الْأَتْبَاعُ بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَباً بِكُمْ يُرِيدُونَ أَنَّ الدُّعَاءَ الَّذِي دَعَوْتُمْ بِهِ عَلَيْنَا أَيُّهَا الرُّؤَسَاءُ أَنْتُمْ أَحَقُّ بِهِ، وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا وَالضَّمِيرُ لِلْعَذَابِ أَوْ لِصِلِيِّهِمْ، فَإِنْ قِيلَ مَا مَعْنَى تَقْدِيمِهِمُ الْعَذَابَ لَهُمْ؟ قُلْنَا الَّذِي أَوْجَبَ التقديم هو عمل السوء قال تعالى: ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ [آل عمران: ١٨١، ١٨٢] إِلَّا أَنَّ الرُّؤَسَاءَ لَمَّا كَانُوا هُمُ السَّبَبُ فيه بإغوائهم وكان العذاب


(١) هكذا في الأصل ولعلها مقارنة لغوية ذكرها المفسر بين الشكل والغنج ولا مناسبة بينهما ظاهرة؟.

<<  <  ج: ص:  >  >>