الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً، وَأَمَّا بَرَاءَتُهُ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَلا لِلَّهِ يُفِيدُ الْحَصْرَ، وَمَعْنَى الْحَصْرِ أَنْ يَثْبُتَ الْحُكْمُ فِي الْمَذْكُورِ وَيَنْتَفِيَ عَنْ غَيْرِ الْمَذْكُورِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْعِبَادَةَ مَعَ الْإِخْلَاصِ لَا تُعْرَفُ حَقِيقَةً إِلَّا إِذَا عَرَفْنَا أَنَّ الْعِبَادَةَ مَا هِيَ وَأَنَّ الْإِخْلَاصَ مَا هُوَ وَأَنَّ الْوُجُوهَ الْمُنَافِيَةَ لِلْإِخْلَاصِ مَا هِيَ فَهَذِهِ أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ لَا بُدَّ مِنَ الْبَحْثِ عَنْهَا:
أَمَّا الْعِبَادَةُ: فَهِيَ فِعْلٌ أَوْ قَوْلٌ أَوْ تَرْكُ فِعْلٍ أَوْ تَرْكُ قَوْلٍ وَيُؤْتَى بِهِ لِمُجَرَّدِ اعْتِقَادِ أَنَّ الْأَمْرَ بِهِ عَظِيمٌ يَجِبُ قَبُولُهُ.
وَأَمَّا الْإِخْلَاصُ: فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الدَّاعِي لَهُ إِلَى الْإِتْيَانِ بِذَلِكَ الْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ مُجَرَّدَ هَذَا الِانْقِيَادِ وَالِامْتِثَالِ، فَإِنْ حَصَلَ مِنْهُ دَاعٍ آخَرُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ جَانِبُ الدَّاعِي إِلَى الطَّاعَةِ رَاجِحًا عَلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ أَوْ مُعَادِلًا لَهُ أَوْ مَرْجُوحًا. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُعَادِلَ وَالْمَرْجُوحَ سَاقِطٌ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ الدَّاعِي إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ رَاجِحًا عَلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يُفِيدُ أَمْ لَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِرَارًا وَلَفْظُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْإِتْيَانِ بِهِ عَلَى سَبِيلِ الْخُلُوصِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً/ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ يَجِبُ الْإِتْيَانُ بِالْعِبَادَةِ عَلَى سَبِيلِ الْخُلُوصِ وَتَأَكَّدَ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [الْبَيِّنَةِ: ٥] وَأَمَّا بَيَانُ الْوُجُوهِ الْمُنَافِيَةِ لِلْإِخْلَاصِ فَهِيَ الْوُجُوهُ الدَّاعِيَةُ لِلشَّرِيكِ وَهِيَ أَقْسَامٌ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ فِيهِ مَدْخَلٌ وَثَانِيهَا:
أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ مِنَ الْإِتْيَانِ بِالطَّاعَةِ الْفَوْزَ بِالْجَنَّةِ وَالْخَلَاصَ مِنَ النَّارِ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَأْتِيَ بِهَا وَيَعْتَقِدَ أَنَّ لَهَا تَأْثِيرًا فِي إِيجَابِ الثَّوَابِ أَوْ دَفْعِ الْعِقَابِ وَرَابِعُهَا: وَهُوَ أَنْ يخلص تلك الطَّاعَاتِ عَنِ الْكَبَائِرِ حَتَّى تَصِيرَ مَقْبُولَةً، وَهَذَا الْقَوْلُ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ الْمُرَادُ مِنْهُ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاحْتَجُّوا بِمَا
رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ حِصْنِي وَمَنْ دَخَلَ حِصْنِي أَمِنَ مِنْ عَذَابِي»
وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: لَا تَضُرُّ الْمَعْصِيَةُ مَعَ الْإِيمَانِ كَمَا لَا تَنْفَعُ الطَّاعَةُ مَعَ الْكُفْرِ، وَأَمَّا الْأَكْثَرُونَ فَقَالُوا الْآيَةُ مُتَنَاوِلَةٌ لِكُلِّ مَا كَلَّفَ اللَّهُ به من الأوامر والنواهي، وهذا هو الْأَوْلَى لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَاعْبُدِ اللَّهَ عَامٌّ، وَرُوِيَ أَنَّ امْرَأَةَ الْفَرَزْدَقِ لَمَّا قَرُبَ وَفَاتُهَا أَوْصَتْ أَنْ يُصَلِّيَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عَلَيْهَا، فَلَمَّا صَلَّى عَلَيْهَا وَدُفِنَتْ، قَالَ لِلْفَرَزْدَقِ: يَا أَبَا فِرَاسٍ مَا الَّذِي أَعْدَدْتَ لِهَذَا الْأَمْرِ؟ قَالَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَالَ الْحَسَنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَذَا الْعَمُودُ فَأَيْنَ الطُّنُبُ؟
فَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ عَمُودَ الْخَيْمَةِ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إِلَّا مَعَ الطُّنُبِ حَتَّى يُمْكِنَ الِانْتِفَاعُ بِالْخَيْمَةِ، قَالَ الْقَاضِي فَأَمَّا مَا
يُرْوَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمُعَاذٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ: «وَإِنْ زِنَى وَإِنْ سَرَقَ عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي الدَّرْدَاءِ»
فَإِنْ صَحَّ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ بِشَرْطِ التَّوْبَةِ وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ قَبُولُ هَذَا الْخَبَرِ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْقُرْآنِ، وَلِأَنَّهُ يُوجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ الْإِنْسَانُ مَزْجُورًا عَنِ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مُتَعَدِّيًا بِفِعْلِهِمَا لِأَنَّهُ مَعَ شِدَّةِ شَهْوَتِهِ لِلْقَبِيحِ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ مَعَ تَمَسُّكِهِ بِالشَّهَادَتَيْنِ فَكَأَنَّ ذلك إغراء بالقبيح والكل ينافي حكمة الله تعالى ولا يلزم أن يقال ذلك فالقول بأنه يزول ضرره بالتوبة يوجب أيضا الإغراء بِالْقَبِيحِ، لِأَنَّا نَقُولُ إِنَّ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ ضَرَرَهُ يَزُولُ بِالتَّوْبَةِ فَقَدِ اعْتَقَدَ أَنَّ فِعْلَ الْقَبِيحِ مَضَرَّةٌ إِلَّا أَنَّهُ يُزِيلُ ذَلِكَ الضَّرَرَ بِفِعْلِ التَّوْبَةِ بِخِلَافِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إِنَّ فِعْلَ الْقَبِيحِ لَا يَضُرُّ مَعَ التَّمَسُّكِ بِالشَّهَادَتَيْنِ.
هَذَا تَمَامُ كَلَامِ الْقَاضِي، فَيُقَالُ لَهُ: أَمَّا قَوْلُكَ إِنَّ الْقَوْلَ بِالْمَغْفِرَةِ مُخَالِفٌ لِلْقُرْآنِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلِ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاءِ: ٤٨] وَقَالَ: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ [الرَّعْدِ: ٦] أَيْ حَالَ ظُلْمِهِمْ كَمَا يُقَالُ رَأَيْتُ الْأَمِيرَ عَلَى أَكْلِهِ وَشُرْبِهِ أَيْ حَالَ كونه