للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْوَاقِعَتَيْنِ مُتَأَخِّرَةً عَنِ الثَّانِيَةِ، فَكَذَلِكَ تَجِيءُ لِبَيَانِ تَأَخُّرِ أَحَدِ الْكَلَامَيْنِ عَنِ الْآخَرِ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ بَلَغَنِي مَا صَنَعْتَ الْيَوْمَ، ثُمَّ مَا صَنَعْتَ أَمْسِ كَانَ أَعْجَبَ، وَيَقُولُ أَيْضًا قَدْ أَعْطَيْتُكَ الْيَوْمَ شَيْئًا، ثُمَّ الَّذِي أَعْطَيْتُكَ أَمْسِ أَكْثَرُ الثَّانِي:

أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ خُلِقَتْ وَحْدَهَا ثُمَّ جُعِلَ مِنْهَا زَوْجُهَا الثَّالِثُ: أَخْرَجَ اللَّهُ تَعَالَى ذُرِّيَّةَ آدَمَ مِنْ ظَهْرِهِ كَالذَّرِّ ثُمَّ خَلَقَ بَعْدَ ذَلِكَ حَوَّاءَ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الِاسْتِدْلَالَ بِخَلْقِهِ الْإِنْسَانَ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ ذَكَرَ عَقِيبَهُ الِاسْتِدْلَالَ/ بِوُجُودِ الْحَيَوَانِ عَلَيْهِ فَقَالَ: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالضَّأْنُ وَالْمَعْزُ وَقَدْ بَيَّنَّا كَيْفِيَّةَ دَلَالَةِ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ فِي قَوْلِهِ: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ [النَّحْلِ: ٥] وَفِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:

وَأَنْزَلَ لَكُمْ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَضَاءَ اللَّهِ وَتَقْدِيرَهُ وَحُكْمَهُ مَوْصُوفٌ بِالنُّزُولِ مِنَ السَّمَاءِ لِأَجْلِ أَنَّهُ كَتَبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ كُلَّ كَائِنٍ يَكُونُ الثَّانِي: أَنَّ شَيْئًا مِنَ الْحَيَوَانِ لَا يَعِيشُ إِلَّا بِالنَّبَاتِ وَالنَّبَاتُ لَا يَقُومُ إِلَّا بِالْمَاءِ وَالتُّرَابِ، وَالْمَاءُ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ فَصَارَ التَّقْدِيرُ كَأَنَّهُ أَنْزَلَهَا الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهَا فِي الْجَنَّةِ ثُمَّ أَنْزَلَهَا إِلَى الْأَرْضِ وَقَوْلُهُ: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ أَيْ ذَكَرٌ وَأُنْثَى مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالضَّأْنِ وَالْمَعْزِ، وَالزَّوْجُ اسْمٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مَعَهُ آخَرُ، فَإِذَا انْفَرَدَ فَهُوَ فَرْدٌ مِنْهُ قَالَ تَعَالَى: فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى [الْقِيَامَةِ: ٣٩] .

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ وَفِيهِ أَبْحَاثٌ:

الْأَوَّلُ: قَرَأَ حَمْزَةُ بِكَسْرِ الْأَلِفِ وَالْمِيمِ، وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ، وَالْبَاقُونَ أُمَّهَاتِكُمْ بِضَمِّ الْأَلْفِ وَفَتْحِ الْمِيمِ.

الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ تَخْلِيقَ النَّاسِ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ وَهُوَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَرْدَفَهُ بِتَخْلِيقِ الْأَنْعَامِ، وَإِنَّمَا خَصَّهَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَشْرَفُ الْحَيَوَانَاتِ بَعْدَ الْإِنْسَانِ، ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَ ذِكْرِهِمَا حَالَةً مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَبَيْنَ الْأَنْعَامِ وَهِيَ كَوْنُهَا مَخْلُوقَةً فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ وَقَوْلُهُ: خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ الْمُرَادُ مِنْهُ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلُهُ:

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [الْمُؤْمِنُونَ:

١٢- ١٤] وَقَوْلُهُ: فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ قِيلَ الظُّلُمَاتُ الثَّلَاثُ الْبَطْنُ وَالرَّحِمُ وَالْمَشِيمَةُ وَقِيلَ الصُّلْبُ وَالرَّحِمُ وَالْبَطْنُ وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْحَالَاتِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ هَذِهِ الدَّلَائِلَ وَوَصَفَهَا قَالَ: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ أَيْ ذَلِكُمُ الشَّيْءُ الَّذِي عَرَفْتُمْ عَجَائِبَ أَفْعَالِهِ هُوَ اللَّهُ رَبُّكُمْ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى كَوْنِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُنَزَّهًا عَنِ الْأَجْزَاءِ وَالْأَعْضَاءِ وَعَلَى كَوْنِهِ مُنَزَّهًا عَنِ الْجِسْمِيَّةِ وَالْمَكَانِيَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تعالى عند ما أَرَادَ أَنْ يُعَرِّفَ عِبَادَهُ ذَاتَهُ الْمَخْصُوصَةَ لَمْ يَذْكُرْ إِلَّا كَوْنَهُ فَاعِلًا لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَلَوْ كَانَ جِسْمًا مُرَكَّبًا مِنَ الْأَعْضَاءِ لَكَانَ تَعْرِيفُهُ بِتِلْكَ الْأَجْزَاءِ وَالْأَعْضَاءِ تَعْرِيفًا لِلشَّيْءِ بِأَجْزَاءِ حَقِيقَتِهِ، وَأَمَّا تَعْرِيفُهُ بِأَحْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَآثَارِهِ فَذَلِكَ تَعْرِيفٌ لَهُ بِأُمُورٍ خَارِجَةٍ عَنْ ذَاتِهِ. وَالتَّعْرِيفُ الْأَوَّلُ أَكْمَلُ مِنَ الثَّانِي، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْقِسْمُ مُمْكِنًا لَكَانَ الِاكْتِفَاءُ بِهَذَا الْقِسْمِ الثَّانِي تَقْصِيرًا وَنَقْصًا وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الِاكْتِفَاءَ بِهَذَا الْقِسْمِ إِنَّمَا حَسُنَ لِأَنَّ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ مُحَالٌ مُمْتَنِعُ الْوُجُودِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُتَعَالِيًا عَنِ الْجِسْمِيَّةِ وَالْأَعْضَاءِ وَالْأَجْزَاءِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>