بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا نَقُولُ إِنَّهُ بِرِضَا اللَّهِ لِأَنَّ الرِّضَا عِبَارَةٌ عَنِ الْمَدْحِ عَلَيْهِ وَالثَّنَاءِ بِفِعْلِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ [الْفَتْحِ: ١٨] أَيْ يَمْدَحُهُمْ وَيُثْنِي عَلَيْهِمْ الثَّالِثُ: كَانَ الشَّيْخُ الْوَالِدُ ضِيَاءُ الدِّينِ عُمَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: الرِّضَا عِبَارَةٌ عَنْ تَرْكِ اللَّوْمِ وَالِاعْتِرَاضِ، وَلَيْسَ عِبَارَةً عَنِ الْإِرَادَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُ ابْنِ دُرَيْدٍ:
رَضِيتُ قَسْرًا وَعَلَى الْقَسْرِ رِضَا ... مَنْ كَانَ ذَا سُخْطٍ عَلَى صَرْفِ الْقَضَا
أَثْبَتَ الرِّضَا مَعَ الْقَسْرِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ وَالرَّابِعُ: هَبْ أَنَّ الرِّضَا هُوَ الْإِرَادَةُ إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ عَامٌّ، فَتَخْصِيصُهُ بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ الْكُفْرَ مِنَ الكافر كقوله تعالى: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الْإِنْسَانِ: ٣٠] وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَرْضَى الْكُفْرَ بَيَّنَ أَنَّهُ يَرْضَى الشُّكْرَ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي هَاءِ يَرْضَهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: قَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ بِضَمِّ الْهَاءِ مُخْتَلَسَةً غَيْرَ مُتْبَعَةٍ وَثَانِيهَا: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ يَرْضَهْ سَاكِنَةَ الْهَاءِ لِلتَّخْفِيفِ وَثَالِثُهَا: قَرَأَ نَافِعٌ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ مَضْمُومَةَ الْهَاءِ مُشْبَعَةً، قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنَ الْقُرَّاءِ مَنْ أَشْبَعَ الْهَاءَ حَتَّى أَلْحَقَ بِهَا وَاوًا، لِأَنَّ مَا قَبْلَ الْهَاءِ مُتَحَرِّكٌ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ ضَرَبَهُ وَلَهُ، فَكَمَا أَنَّ هَذَا مُشْبَعٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ كَذَلِكَ يَرْضَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَرَّكَ الْهَاءَ وَلَمْ يُلْحِقِ الْوَاوَ، لِأَنَّ الْأَصْلَ يَرْضَاهُ وَالْأَلِفُ الْمَحْذُوفَةُ لِلْجَزْمِ لَيْسَ يَلْزَمُ حَذْفُهَا فَكَانَتْ كَالْبَاقِيَةِ، وَمَعَ بَقَاءِ الْأَلْفِ لَا يَجُوزُ إِثْبَاتُ الْوَاوِ فكذا هاهنا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الشُّكْرُ حَالَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ قَوْلٍ وَاعْتِقَادٍ وَعَمَلٍ أَمَّا الْقَوْلُ فَهُوَ الْإِقْرَارُ بِحُصُولِ النِّعْمَةِ وَأَمَّا الِاعْتِقَادُ فَهُوَ اعْتِقَادُ صُدُورِ النِّعْمَةِ مِنْ ذَلِكَ الْمُنْعِمِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى قَالَ الْجُبَّائِيُّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ، فَلَوْ فَعَلَ اللَّهُ كُفْرَهُمْ لَمَا جَازَ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ عَلَيْهِ، وَأَيْضًا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَذَّبَ الْأَوْلَادُ بِذُنُوبِ الْآبَاءِ، بِخِلَافِ مَا يَقُولُ الْقَوْمُ. وَاحْتَجَّ أَيْضًا مَنْ أَنْكَرَ وُجُوبَ ضَرْبِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ وَاعْلَمْ أَنَّا ذَكَرْنَا كَثِيرًا أَنَّ أَهَمَّ الْمُطَالِبِ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَعْرِفَ خَالِقَهُ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَأَنْ يَعْرِفَ مَا يَضُرُّهُ وَمَا يَنْفَعُهُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَأَنْ يَعْرِفَ أَحْوَالَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ ذَكَرَ الدَّلَائِلَ الْكَثِيرَةَ مِنَ الْعَالَمِ الْأَعْلَى وَالْعَالَمِ الْأَسْفَلِ عَلَى كَمَالِ/ قُدْرَةِ الصَّانِعِ وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِأَنْ أَمَرَهُ بِالشُّكْرِ وَنَهَاهُ عَنِ الْكُفْرِ ثُمَّ بَيَّنَ أَحْوَالَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُشَبِّهَةُ تَمَسَّكُوا بِلَفْظِ إِلَى عَلَى أَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ فِي جِهَةٍ وَقَدْ أَجَبْنَا عَنْهُ مِرَارًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: زَعَمَ الْقَوْمُ أَنَّ هَذِهِ الْأَرْوَاحَ كَانَتْ قَبْلَ الْأَجْسَادِ وَتَمَسَّكُوا بِلَفْظِ الرُّجُوعِ الْمَوْجُودِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي سَائِرِ الْآيَاتِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى إِثْبَاتِ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ.
ثُمَّ قَالَ: فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَهَذَا تَهْدِيدٌ لِلْعَاصِي وَبِشَارَةٌ لِلْمُطِيعِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ كَالْعِلَّةِ لِمَا سَبَقَ، يَعْنِي أَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يُنَبِّئَكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ، لِأَنَّهُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، فيعلم ما