هَذَا هُوَ النِّعْمَةُ الثَّانِيَةُ، وَقَوْلُهُ: فَرَقْنا أَيْ فَصَلْنَا بَيْنَ بَعْضِهِ وَبَعْضٍ حَتَّى صَارَتْ فِيهِ مسالك لكم وقرئ:
فَرَقْنا بِالتَّشْدِيدِ بِمَعْنَى فَصَّلْنَا. يُقَالُ: فَرَّقَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ وَفَرَّقَ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ لِأَنَّ الْمَسَالِكَ كَانَتِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ عَلَى عَدَدِ الْأَسْبَاطِ، فَإِنْ قُلْتَ: ما معنى: (بكم) ؟ قلنا: فيه وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْلُكُونَهُ وَيَتَفَرَّقُ الْمَاءُ عِنْدَ سُلُوكِهِمْ فَكَأَنَّمَا فَرَّقَ بِهِمْ كَمَا يُفَرَّقُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ بِمَا تَوَسَّطَ بَيْنَهُمَا، الثَّانِي: فَرَّقْنَاهُ بِسَبَبِكُمْ وَبِسَبَبِ إِنْجَائِكُمْ ثُمَّ هَاهُنَا أَبْحَاثٌ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ:
رُوِيَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَرَادَ إِغْرَاقَ فِرْعَوْنَ وَالْقِبْطِ وَبَلَغَ بِهِمُ الْحَالُ فِي مَعْلُومِ اللَّهِ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَمَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَسْتَعِيرُوا حلي القبط،
وذلك الغرضين. أَحَدُهُمَا: لِيَخْرُجُوا خَلْفَهُمْ لِأَجْلِ الْمَالِ، وَالثَّانِي: أَنْ تَبْقَى أَمْوَالُهُمْ فِي أَيْدِيهِمْ ثُمَّ نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْعَشِيِّ وَقَالَ لِمُوسَى:
أَخْرِجْ قَوْمَكَ لَيْلًا، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي [طه: ٧٧] وَكَانُوا سِتَّمِائَةِ أَلْفِ نَفْسٍ لِأَنَّهُمْ كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ سِبْطًا كُلُّ سِبْطٍ خَمْسُونَ أَلْفًا، فَلَمَّا خَرَجَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ بَلَغَ ذَلِكَ فِرْعَوْنَ، فَقَالَ: لَا تَتَّبِعُوهُمْ حَتَّى يَصِيحَ الديك. قال الراوي: فو الله مَا صَاحَ لَيْلَتَهُ دِيكٌ فَلَمَّا أَصْبَحُوا دَعَا فِرْعَوْنُ بِشَاةٍ فَذُبِحَتْ ثُمَّ قَالَ: لَا أَفْرَغُ مِنْ تَنَاوُلِ كَبِدِ هَذِهِ الشَّاةِ حَتَّى يَجْتَمِعَ إِلَيَّ سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ مِنَ الْقِبْطِ، وَقَالَ قَتَادَةُ:
اجْتَمَعَ إِلَيْهِ أَلْفُ أَلْفٍ/ وَمِائَتَا أَلْفِ نَفْسٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى فَرَسٍ حِصَانٍ فَتَبِعُوهُمْ نَهَارًا. وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ [الشُّعَرَاءِ: ٦٠] أي بعد طلوع الشمس. فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشُّعَرَاءِ: ٦١] فَقَالَ مُوسَى: كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشُّعَرَاءِ: ٦٢] فَلَمَّا سَارَ بِهِمْ مُوسَى وَأَتَى الْبَحْرَ قَالَ لَهُ يُوشَعُ بْنُ نُونَ: أَيْنَ أَمَرَكَ رَبُّكَ؟ فَقَالَ مُوسَى: إِلَى أَمَامِكَ وَأَشَارَ إِلَى الْبَحْرِ فَأَقْحَمَ يُوشَعُ بْنُ نُونَ فَرَسَهُ فِي الْبَحْرِ فَكَانَ يَمْشِي فِي الْمَاءِ حَتَّى بَلَغَ الْغَمْرَ، فَسَبَحَ الْفَرَسُ وَهُوَ عَلَيْهِ ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ لَهُ: يَا مُوسَى أَيْنَ أَمَرَكَ رَبُّكَ؟ فَقَالَ الْبَحْرَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا كَذَبْتَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشُّعَرَاءِ: ٦٧] ، فَانْشَقَّ الْبَحْرُ اثْنَيْ عَشَرَ جَبَلًا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا طَرِيقٌ، فَقَالَ لَهُ: ادْخُلْ فَكَانَ فِيهِ وَحْلٌ فَهَبَّتِ الصَّبَا فَجَفَّ الْبَحْرُ، وَكُلُّ طَرِيقٍ فِيهِ حَتَّى صَارَ طَرِيقًا يَابِسًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً [طَهَ: ٧٧] ، فَأَخَذَ كُلُّ سِبْطٍ مِنْهُمْ طَرِيقًا وَدَخَلُوا فِيهِ فَقَالُوا لِمُوسَى: إِنَّ بَعْضَنَا لَا يَرَى صَاحِبَهُ، فَضَرَبَ مُوسَى عَصَاهُ عَلَى الْبَحْرِ فَصَارَ بَيْنَ الطُّرُقِ مَنَافِذُ وَكُوًى فَرَأَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، ثُمَّ أَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ، فَلَمَّا بَلَغَ شَاطِئَ الْبَحْرِ رَأَى إِبْلِيسَ وَاقِفًا فَنَهَاهُ عَنِ الدُّخُولِ فَهَمَّ بِأَنْ لَا يَدْخُلَ الْبَحْرَ فَجَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى حَجْرَةٍ فَتَقَدَّمَ فِرْعَوْنَ وَهُوَ كَانَ عَلَى فَحْلٍ فَتَبِعَهُ فَرَسُ فِرْعَوْنَ وَدَخْلَ الْبَحْرَ، فَلَمَّا دَخَلَ فِرْعَوْنُ الْبَحْرَ صَاحَ مِيكَائِيلُ بِهِمْ أَلْحِقُوا آخِرَكُمْ بِأَوَّلِكُمْ، فَلَمَّا دَخَلُوا الْبَحْرَ بِالْكُلِّيَّةِ أَمَرَ اللَّهُ الْمَاءَ حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِمْ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ وَقِيلَ كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَصَامَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ الْيَوْمَ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى.
الْبَحْثُ الثَّانِي: اعلم أن هذه الْوَاقِعَةَ تَضَمَّنَتْ نِعَمًا كَثِيرَةً فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، أَمَّا نِعَمُ الدُّنْيَا فِي حَقِّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهِيَ مِنْ وُجُوهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ لَمَّا وَقَعُوا فِي ذَلِكَ الْمَضِيقِ الَّذِي مِنْ وَرَائِهِمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ وَقُدَّامِهِمُ الْبَحْرُ، فَإِنْ تَوَقَّفُوا أَدْرَكَهُمُ الْعَدُوُّ وَأَهْلَكَهُمْ بِأَشَدِّ الْعَذَابِ وَإِنْ سَارُوا غَرِقُوا فَلَا خَوْفَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ نَجَّاهُمْ بِفَلْقِ الْبَحْرِ فَلَا فَرَجَ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ. وَثَانِيهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّهُمْ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ وَالْمُعْجِزَةِ الْبَاهِرَةِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute