للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لِيَزْدَادُوا إِحْسَانًا إِلَى إِحْسَانِهِمْ، وَطَاعَةً إِلَى طَاعَتِهِمْ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّرْغِيبُ فِي الْهِجْرَةِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَالصَّبْرِ عَلَى مُفَارَقَةِ الْوَطَنِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها [النِّسَاءِ: ٩٧] وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَرْضِ أَرْضَ الْجَنَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّقْوَى وَهِيَ خَشْيَةُ اللَّهِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ مَنِ اتَّقَى فَلَهُ فِي الْآخِرَةِ الْحَسَنَةُ، وَهِيَ الْخُلُودُ فِي الْجَنَّةِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ أَرْضَ اللَّهِ، أَيْ جَنَّتَهُ وَاسِعَةٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ [الزُّمَرِ: ٧٤] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آلِ عِمْرَانَ: ١٣٣] وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ عِنْدِي أَوْلَى، لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْأَوَّلِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَمَّا تَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِي مَاهِيَّةِ الصَّبْرِ، فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي سورة البقرة، والمراد هاهنا بِالصَّابِرِينَ الَّذِينَ صَبَرُوا عَلَى مُفَارَقَةِ أَوْطَانِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ، وَعَلَى تَجَرُّعِ الْغُصَصِ وَاحْتِمَالِ الْبَلَايَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَسْمِيَةُ الْمَنَافِعِ الَّتِي وَعَدَ اللَّهُ بِهَا عَلَى الصَّبْرِ بِالْأَجْرِ تُوهِمُ أَنَّ الْعَمَلَ عَلَى الثَّوَابِ، لِأَنَّ الْأَجْرَ هُوَ الْمُسْتَحَقُّ، إِلَّا أَنَّهُ قَامَتِ الدَّلَائِلُ الْقَاهِرَةُ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ لَيْسَ عَلَيْهِ الثَّوَابُ، فَوَجَبَ حَمْلُ لَفْظِ الْأَجْرِ عَلَى كَوْنِهِ أَجْرًا بِحَسَبِ الْوَعْدِ، لَا بِحَسَبِ الِاسْتِحْقَاقِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ ذَلِكَ الْأَجْرَ بِأَنَّهُ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ مَا يَسْتَحِقُّونَ وَيَزْدَادُونَ تَفَضُّلًا فَهُوَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَلَوْ لَمْ يُعْطَوْا إِلَّا الْمُسْتَحَقَّ لَكَانَ ذَلِكَ حِسَابًا، قَالَ الْقَاضِي هَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ الْأَجْرَ/ بِأَنَّهُ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَلَوْ لَمْ يُعْطَوْا إِلَّا الْأَجْرَ الْمُسْتَحَقَّ، وَالْأَجْرُ غَيْرُ التَّفَضُّلِ الثَّانِي: أَنَّ الثَّوَابَ لَهُ صِفَاتٌ ثلاثة أحدها: أَنَّهَا تَكُونُ دَائِمَةَ الْأَجْرِ لَهُمْ، وَقَوْلُهُ: بِغَيْرِ حِسابٍ مَعْنَاهُ بِغَيْرِ نِهَايَةٍ، لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ دَخَلَ تَحْتَ الْحِسَابِ فَهُوَ مُتَنَاهٍ، فَمَا لَا نِهَايَةَ لَهُ كَانَ خَارِجًا عَنِ الْحِسَابِ وَثَانِيهَا: أَنَّهَا تَكُونُ مَنَافِعَ كَامِلَةً فِي أَنْفُسِهَا، وَعَقْلُ الْمُطِيعِ مَا كَانَ يَصِلُ إِلَى كُنْهِ ذَلِكَ الثَّوَابِ،

قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ»

وَكُلُّ مَا يُشَاهِدُونَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الثَّوَابِ وَجَدُوهُ أَزْيَدَ مِمَّا تَصَوَّرُوهُ وَتَوَقَّعُوهُ، وَمَا لَا يَتَوَقَّعُهُ الْإِنْسَانُ، فَقَدْ يُقَالُ إِنَّهُ لَيْسَ فِي حِسَابِهِ، فَقَوْلُهُ: بِغَيْرِ حِسابٍ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي التَّأْوِيلِ أَنَّ ثَوَابَ أَهْلِ الْبَلَاءِ لَا يُقَدَّرُ بِالْمِيزَانِ وَالْمِكْيَالِ،

رَوَى صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «يَنْصِبُ اللَّهُ الْمَوَازِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فيؤتى بأهل الصَّلَاةِ فَيُوَفَّوْنَ أُجُورَهُمْ بِالْمَوَازِينِ، وَيُؤْتَى بِأَهْلِ الصَّدَقَةِ فَيُوَفَّوْنَ أُجُورَهُمْ بِالْمَوَازِينِ، وَيُؤْتَى بِأَهْلِ الْبَلَاءِ فَلَا يُنْصَبُ لَهُمْ مِيزَانٌ وَلَا يُنْشَرُ لَهُمْ دِيوَانٌ، وَيُصَبُّ عَلَيْهِمُ الْأَجْرُ صَبًّا»

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ حَتَّى يَتَمَنَّى أَهْلُ الْعَافِيَةِ فِي الدُّنْيَا أَنَّ أَجْسَادَهُمْ تُقْرَضُ بِالْمَقَارِيضِ لِمَا بِهِ أَهْلُ الْبَلَاءِ مِنَ الفضل.

النوع الثاني: من البيانات أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يَذْكُرَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ

قَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَحْمِلُكَ عَلَى هَذَا الدِّينِ الَّذِي أَتَيْتَنَا بِهِ؟ أَلَا تَنْظُرُ إِلَى مِلَّةِ أَبِيكَ وَجَدِّكَ وَسَادَاتِ قَوْمِكَ يَعْبُدُونَ اللَّاتَ وَالْعُزَّى! فَأَنْزَلَ اللَّهُ، قُلْ يَا مُحَمَّدُ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ،

وَأَقُولُ إِنَّ التَّكْلِيفَ نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا: الْأَمْرُ بِالِاحْتِرَازِ عَمَّا لَا يَنْبَغِي وَالثَّانِي: الْأَمْرُ بِتَحْصِيلِ مَا يَنْبَغِي، وَالْمَرْتَبَةُ الْأُولَى مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ بِحَسَبِ الرُّتْبَةِ الْوَاجِبَةِ اللَّازِمَةِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ إِنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ الأمر

<<  <  ج: ص:  >  >>