للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَلْبًا بِتَقْدِيمِ اللَّامِ عَلَى الْعَيْنِ، وَفِي هَذَا اللَّفْظِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْمُبَالَغَةِ أَحَدُهَا: التَّسْمِيَةُ بِالْمَصْدَرِ كَأَنَّ عَيْنَ ذَلِكَ الشَّيْءِ الطُّغْيَانُ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْبِنَاءَ بِنَاءُ الْمُبَالَغَةِ فَإِنَّ الرَّحَمُوتَ الرَّحْمَةُ الْوَاسِعَةُ وَالْمَلَكُوتَ الْمُلْكُ الْمَبْسُوطُ وَثَالِثُهَا: مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَقْدِيمِ اللَّامِ عَلَى الْعَيْنِ وَمِثْلُ هَذَا إِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْمُبَالَغَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا في أن المراد من الطاغوت هاهنا الشَّيْطَانُ أَمِ الْأَوْثَانُ، فَقِيلَ إِنَّهُ الشَّيْطَانُ فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُمْ مَا عَبَدُوا الشَّيْطَانَ وَإِنَّمَا عَبَدُوا الصَّنَمَ، قُلْنَا الدَّاعِي إِلَى عِبَادَةِ الصَّنَمِ لَمَّا كَانَ هُوَ الشَّيْطَانَ كَانَ الْإِقْدَامُ عَلَى عِبَادَةِ الصَّنَمِ عِبَادَةً لِلشَّيْطَانِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالطَّاغُوتِ الصَّنَمُ وَسُمِّيَتْ طَوَاغِيتَ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ لِأَنَّهُ لَا فِعْلَ لَهَا، وَالطُّغَاةُ هُمُ الَّذِينَ يَعْبُدُونَهَا إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا حَصَلَ الطُّغْيَانُ عِنْدَ مُشَاهَدَتِهَا وَالْقُرْبِ مِنْهَا، وُصِفَتْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ إِطْلَاقًا لِاسْمِ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، وَقِيلَ كُلُّ مَا يُعْبَدُ وَيُطَاعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَهُوَ طَاغُوتٌ، وَيُقَالُ فِي التَّوَارِيخِ إِنَّ الْأَصْلَ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا مُشَبِّهَةً اعْتَقَدُوا فِي الْإِلَهِ أَنَّهُ نُورٌ عَظِيمٌ، وَفِي الْمَلَائِكَةِ أَنَّهَا أَنْوَارٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، فَوَضَعُوا تَمَاثِيلَ وَصُوَرًا عَلَى وَفْقِ تِلْكَ الْخَيَالَاتِ فَكَانُوا يَعْبُدُونَ تِلْكَ التَّمَاثِيلَ عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَالْمَلَائِكَةَ، وَأَقُولُ حَاصِلُ الْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَيْ أَعْرَضُوا عَنْ عُبُودِيَّةِ كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ أَيْ رَجَعُوا بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى اللَّهِ. وَرَأَيْتُ فِي السِّفْرِ الْخَامِسِ مِنَ التَّوْرَاةِ، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِمُوسَى: يَا مُوسَى أَجِبْ إِلَهَكَ بِكُلِّ قَلْبِكِ. وَأَقُولُ مَا دَامَ يَبْقَى فِي الْقَلْبِ الْتِفَاتٌ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ فَهُوَ مَا أَجَابَ إِلَهَهُ بِكُلِّ قَلْبِهِ، وَإِنَّمَا تَحْصُلُ الْإِجَابَةُ بِكُلِّ الْقَلْبِ إِذَا أَعْرَضَ الْقَلْبُ عَنْ كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ مِنْ بَابِ الطَّاعَاتِ فَكَيْفَ يُعْرِضُ عَنْهَا مَعَ/ أَنَّهُ بِالْحِسِّ يُشَاهِدُ الْأَسْبَابَ الْمُفْضِيَةَ إِلَى الْمُسَبَّبَاتِ فِي هَذَا الْعَالَمِ، قُلْنَا لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ إِعْرَاضِ الْقَلْبِ عَنْهَا أَنْ يَقْضِيَ عَلَيْهَا بِالْعَدَمِ فَإِنَّ ذَلِكَ دُخُولٌ فِي السَّفْسَطَةِ وَهُوَ بَاطِلٌ، بَلِ الْمُرَادُ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ وَاحِدٌ، وَأَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ فَإِنَّهُ مُمْكِنُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ وَكُلُّ مَا كَانَ مُمْكِنًا لِذَاتِهِ فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ إِلَّا بِتَكْوِينِ الْوَاجِبِ وَإِيجَادِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ تَكْوِينَهُ لِلْأَشْيَاءِ عَلَى قِسْمَيْنِ مِنْهَا ما يكون بغير واسطة وهي عالم السموات وَالرُّوحَانِيَّاتِ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ بِوَاسِطَةٍ وَهُوَ عَالَمُ الْعَنَاصِرِ وَالْعَالَمُ الْأَسْفَلُ، فَإِذَا عَرَفْتَ الْأَشْيَاءَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَرَفْتَ أَنَّ الْكُلَّ لِلَّهِ وَمِنَ اللَّهِ وَبِاللَّهِ، وَأَنَّهُ لَا مُدَبِّرَ إِلَّا هُوَ وَلَا مُؤَثِّرَ غَيْرُهُ، وَحِينَئِذٍ يَنْقَطِعُ نَظَرُهُ عَنْ هَذِهِ الْمُمْكِنَاتِ وَيَبْقَى مَشْغُولَ الْقَلْبِ بِالْمُؤَثِّرِ الْأَوَّلِ وَالْمُوجِدِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ قَدْ وَضَعَ الأسباب الروحانية والجسمانية بحيث يتأذى إِلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ، فَهَذَا الشَّيْءُ يَحْصُلُ وَإِنْ كَانَ قَدْ وُضِعَ بِحَيْثُ لَا يُفْضِي إِلَى حُصُولِ هَذَا الشَّيْءِ لَمْ يَحْصُلْ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَنْقَطِعُ نَظَرُهُ عَنِ الْكُلِّ وَلَا يَبْقَى فِي قَلْبِهِ الْتِفَاتٌ إِلَى شَيْءٍ إِلَّا إِلَى الْمَوْجُودِ الْأَوَّلِ، وَقَدِ اتَّفَقَ أَنِّي كُنْتُ أَنْصَحُ بَعْضَ الصِّبْيَانِ فِي حِفْظِ الْعِرْضِ وَالْمَالِ فَعَارَضَنِي وَقَالَ لَا يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عَلَى الْجِدِّ وَالْجُهْدِ بَلْ يَجِبُ الِاعْتِمَادُ عَلَى قَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، فَقُلْتُ هَذِهِ كَلِمَةُ حَقٍّ سَمِعْتَهَا وَلَكِنَّكَ مَا عَرَفْتَ مَعْنَاهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا شُبْهَةَ أَنَّ الْكُلَّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ دَبَّرَ الْأَشْيَاءَ عَلَى قِسْمَيْنِ مِنْهَا مَا جَعَلَ حُدُوثَهُ وَحُصُولَهُ مُعَلَّقًا بِأَسْبَابٍ مَعْلُومَةٍ وَمِنْهَا مَا يُحْدِثُهُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ.

أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فَهُوَ حَوَادِثُ هَذَا الْعَالَمِ الْأَسْفَلِ.

وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: فَهُوَ حَوَادِثُ هَذَا الْعَالَمِ الْأَعْلَى، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ مَنْ طَلَبَ حَوَادِثَ هَذَا الْعَالَمِ الْأَسْفَلِ لَا مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي عَيَّنَهَا اللَّهُ تَعَالَى كَانَ هَذَا الشَّخْصُ مُنَازِعًا لِلَّهِ فِي حِكْمَتِهِ مُخَالِفًا فِي تَدْبِيرِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ بِحُدُوثِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِنَاءً عَلَى تِلْكَ الْأَسْبَابِ الْمُعَيَّنَةِ الْمَعْلُومَةِ وَأَنْتَ تُرِيدُ تَحْصِيلَهَا لَا مِنْ تِلْكَ

<<  <  ج: ص:  >  >>