الْحَذْفُ لِدِلَالَةِ أُخْرَى عَلَيْهَا وَلِكَوْنِهَا مَعْلُومَةً.
الثَّالِثُ: قَوْلُهُ فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَعْنِي قِيَامَهُمْ مِنَ الْقُبُورِ يَحْصُلُ عَقِيبَ هَذِهِ النَّفْخَةِ الْأَخِيرَةِ/ فِي الْحَالِ مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ لِأَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ فَإِذا هُمْ تَدُلُّ عَلَى التَّعْقِيبِ.
الرَّابِعُ: قَوْلُهُ يَنْظُرُونَ وَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: يَنْظُرُونَ يُقَلِّبُونَ أَبْصَارَهُمْ فِي الْجِهَاتِ نَظَرَ الْمَبْهُوتِ إِذَا فَاجَأَهُ خَطْبٌ عَظِيمٌ وَالثَّانِي: يَنْظُرُونَ مَاذَا يُفْعَلُ بِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقِيَامُ بِمَعْنَى الْوُقُوفِ وَالْخُمُودِ فِي مَكَانٍ لِأَجْلِ اسْتِيلَاءِ الْحَيْرَةِ وَالدَّهْشَةِ عَلَيْهِمْ.
وَلَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى هَاتَيْنِ النَّفْخَتَيْنِ قَالَ: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْأَرْضُ الْمَذْكُورَةُ لَيْسَتْ هِيَ هَذِهِ الْأَرْضَ الَّتِي يُقْعَدُ عَلَيْهَا الْآنَ بِدَلِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ [إِبْرَاهِيمَ: ٤٨] وَبِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً [الْحَاقَّةِ: ١٤] بَلْ هِيَ أَرْضٌ أُخْرَى يَخْلُقُهَا اللَّهُ تَعَالَى لِمَحْفَلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُجَسِّمَةُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نُورٌ مَحْضٌ، فَإِذَا حَضَرَ اللَّهُ فِي تِلْكَ الْأَرْضِ لِأَجْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ عِبَادِهِ أَشْرَقَتْ تِلْكَ الْأَرْضُ بِنُورِ اللَّهِ، وَأَكَّدُوا هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النُّورِ: ٣٥] .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَوَابَ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّا بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نُورًا بِمَعْنَى كَوْنِهِ مِنْ جِنْسِ هَذِهِ الْأَنْوَارِ الْمُشَاهَدَةِ، وَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَجَبَ حَمْلُ لَفْظِ النُّورِ هَاهُنَا عَلَى الْعَدْلِ، فَنَحْتَاجُ هَاهُنَا إِلَى بَيَانِ أَنَّ لَفْظَ النُّورِ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي هَذَا الْمَعْنَى، ثُمَّ إِلَى بَيَانِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ لَفْظِ النُّورِ هَاهُنَا لَيْسَ إِلَّا هَذَا الْمَعْنَى، أَمَّا بَيَانُ الِاسْتِعْمَالِ فَهُوَ أَنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ لِلْمَلِكِ الْعَادِلِ أَشْرَقَتِ الْآفَاقُ بِعَدْلِكَ، وَأَضَاءَتِ الدُّنْيَا بِقِسْطِكَ، كَمَا يَقُولُونَ أَظْلَمَتِ الْبِلَادُ بِجُورِكَ،
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ النُّورِ هَاهُنَا الْعَدْلُ فَقَطْ أَنَّهُ قَالَ: وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَجِيءَ بِالشُّهَدَاءِ لَيْسَ إِلَّا لِإِظْهَارِ الْعَدْلِ، وَأَيْضًا قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ النُّورِ إِزَالَةُ ذَلِكَ الظُّلْمِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى فَتَحَ هَذِهِ الْآيَةَ بِإِثْبَاتِ الْعَدْلِ وَخَتَمَهَا بِنَفْيِ الظُّلْمِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ عَنِ الشُّبْهَةِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَحْصُلُ هُنَاكَ نُورٌ مُضَافٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَلْزَمُ كَوْنُ ذَلِكَ صِفَةَ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ يَكْفِي فِي صِدْقِ الْإِضَافَةِ أَدْنَى سَبَبٍ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ النُّورُ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ وَشَرَّفَهُ بِأَنْ أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ كَانَ ذَلِكَ النُّورُ نُورَ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ: بَيْتُ اللَّهِ، وَنَاقَةُ اللَّهِ وَهَذَا الْجَوَابُ أَقْوَى مِنَ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ فِي هَذَا الْجَوَابِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَرْكِ الْحَقِيقَةِ وَالذَّهَابِ إِلَى الْمَجَازِ. وَالْوَجْهُ الثالث: أنه قد يقال فُلَانٌ رَبُّ هَذِهِ الْأَرْضِ وَرَبُّ هَذِهِ الدَّارِ وَرَبُّ هَذِهِ الْجَارِيَةِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ رَبُّ هَذِهِ الْأَرْضِ مَلِكًا مِنَ الْمُلُوكِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا يَمْتَنِعُ كَوْنُهُ نُورًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ أَحْوَالِ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَشْيَاءَ: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِيهِ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ وَوُضِعَ الْكِتابُ/ وَفِي الْمُرَادِ بِالْكِتَابِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ شَرْحُ أَحْوَالِ عَالَمِ الدُّنْيَا إِلَى وَقْتِ قِيَامِ الْقِيَامَةِ الثَّانِي: الْمُرَادُ كُتُبُ الْأَعْمَالَ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ سُبْحَانَ وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً