للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

شَدِيدُ الْعِقَابِ ذَكَرَ قَبْلَهُ أَمْرَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقْتَضِي زَوَالَ الْعِقَابِ، وَهُوَ كَوْنُهُ غَافِرَ الذَّنْبِ وَقَابِلَ التَّوْبِ وَذَكَرَ بَعْدَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الرَّحْمَةِ الْعَظِيمَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ ذِي الطَّوْلِ، فَكَوْنُهُ شَدِيدَ الْعِقَابِ لَمَّا كَانَ مَسْبُوقًا بِتَيْنَكَ الصِّفَتَيْنِ وَمَلْحُوقًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ جَانِبَ الرَّحْمَةِ وَالْكَرَمِ أَرْجَحُ.

الْبَحْثُ الثَّالِثُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ ذَكَرَ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ وَلَمْ يَذْكُرْهَا فِي قَوْلِهِ شَدِيدِ الْعِقابِ فَمَا الْفَرْقُ؟ قُلْنَا إِنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرِ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ لَاحْتَمَلَ أَنْ يَقَعَ فِي خَاطِرِ إِنْسَانٍ أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِكَوْنِهِ غَافِرَ الذَّنْبِ إِلَّا كَوْنُهُ قَابِلَ التَّوْبِ، أَمَّا لَمَّا ذَكَرَ الْوَاوَ زَالَ هَذَا الِاحْتِمَالُ، لِأَنَّ عَطْفَ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ مُحَالٌ، أَمَّا كَوْنُهُ شَدِيدَ الْعِقَابِ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مُغَايِرٌ لِكَوْنِهِ غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ فَاسْتَغْنَى بِهِ عَنْ ذِكْرِ الواو.

الصفة الرابعة: قوله ذِي الطَّوْلِ أَيِ ذِي التَّفَضُّلِ يُقَالُ طَالَ عَلَيْنَا طَوْلًا أَيْ تَفَضَّلَ عَلَيْنَا تَفَضُّلًا، وَمِنْ كَلَامِهِمْ طُلْ عَلَيَّ بِفَضْلِكَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ [الزمر: ٨٦] وَمَضَى تَفْسِيرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا [النساء: ٢٥] واعلم أنه لم وَصَفَ نَفْسَهُ بِكَوْنِهِ شَدِيدِ الْعِقابِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِكَوْنِهِ تَعَالَى آتِيًا بِالْعِقَابِ الشَّدِيدِ الَّذِي لَا يَقْبُحُ مِنْهُ إِتْيَانُهُ بِهِ، بَلْ لَا يَجُوزُ وَصْفُهُ تَعَالَى بِكَوْنِهِ آتِيًا لِفِعْلِ الْقَبِيحِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: ذَكَرَ بَعْدَهُ كَوْنَهُ ذَا الطَّوْلِ وَهُوَ كَوْنُهُ ذَا الْفَضْلِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ كَوْنَهُ ذَا الْفَضْلِ بِسَبَبِ أَنْ يَتْرُكَ الْعِقَابَ الَّذِي لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ لِأَنَّهُ ذَكَرَ كَوْنَهُ ذَا الطَّوْلِ وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ ذُو الطَّوْلِ فِي مَاذَا فَوَجَبَ صَرْفُهُ إِلَى كَوْنِهِ ذَا الطَّوْلِ فِي الْأَمْرِ الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ، وَهُوَ فِعْلُ الْعِقَابِ الْحَسَنِ دَفْعًا لِلْإِجْمَالِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تعالى قد يترك العقاب الذي/ يحسن مِنْهُ تَعَالَى فِعْلُهُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَفْوَ عَنْ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ جَائِزٌ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.

الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ: التَّوْحِيدُ الْمُطْلَقُ وَهُوَ قَوْلُهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ وَصَفَ نَفْسَهُ بِصِفَاتِ الرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ، فَلَوْ كَانَ مَعَهُ إِلَهٌ آخَرُ يُشَارِكُهُ وَيُسَاوِيهِ فِي صِفَةِ الرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ لَمَا كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى عُبُودِيَّتِهِ شَدِيدَةً، أَمَّا إِذَا كَانَ وَاحِدًا وَلَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ وَلَا شَبِيهٌ كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى الْإِقْرَارِ بِعُبُودِيَّتِهِ شَدِيدَةً، فَكَانَ التَّرْغِيبُ وَالتَّرْهِيبُ الْكَامِلَانِ يَحْصُلَانِ بِسَبَبِ هَذَا التَّوْحِيدِ.

الصِّفَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ وَهَذِهِ الصِّفَةُ أَيْضًا مِمَّا يُقَوِّي الرَّغْبَةَ فِي الْإِقْرَارِ بِعُبُودِيَّتِهِ، لِأَنَّهُ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الْفَضْلِ وَالْكَرَمِ وَكَانَ وَاحِدًا لَا شَرِيكَ لَهُ، إِلَّا أَنَّ الْقَوْلَ بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ إِنْ كَانَ بَاطِلًا لَمْ يَكُنِ الْخَوْفُ الشَّدِيدُ حَاصِلًا مِنْ عِصْيَانِهِ، أَمَّا لَمَّا كَانَ الْقَوْلُ بِالْحَشْرِ وَالْقِيَامَةِ حَاصِلًا كَانَ الْخَوْفُ أَشَدَّ وَالْحَذَرُ أَكْمَلَ، فَلِهَذَا السَّبَبِ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَاحْتَجَّ أَهْلُ التَّشْبِيهِ بِلَفْظَةِ إِلَى، وَقَالُوا إِنَّهَا تُفِيدُ انْتِهَاءَ الْغَايَةِ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ مَذْكُورٌ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَرَّرَ أَنَّ الْقُرْآنَ كِتَابٌ أَنْزَلَهُ لِيُهْتَدَى بِهِ فِي الدِّينِ ذَكَرَ أَحْوَالَ مَنْ يُجَادِلُ لِغَرَضِ إِبْطَالِهِ وَإِخْفَاءِ أَمْرِهِ فَقَالَ: مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ الْجِدَالَ نَوْعَانِ جِدَالٌ فِي تَقْرِيرِ الْحَقِّ وَجِدَالٌ فِي تَقْرِيرِ الْبَاطِلِ، أَمَّا الْجِدَالُ فِي تَقْرِيرِ الْحَقِّ فَهُوَ حِرْفَةُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ قَالَ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النمل: ١٢٥] وقال

<<  <  ج: ص:  >  >>