للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

جَمْعًا آخَرِينَ، الْكُلُّ مُمْكِنٌ وَلَيْسَ عَلَى التَّعْيِينِ دَلِيلٌ، فَإِنْ قِيلَ وَمَا الْفَائِدَةُ فِي تَخْصِيصِ هَذَا الْيَوْمِ بِهَذَا النِّدَاءِ؟.

فَنَقُولُ النَّاسُ كَانُوا مَغْرُورِينَ فِي الدُّنْيَا بِالْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ، وَكَانَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْوَالِدُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: لَوْلَا الْأَسْبَابُ لَمَا ارْتَابَ مُرْتَابٌ، وَفِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ زَالَتِ الْأَسْبَابُ، وَانْعَزَلَتِ الْأَرْبَابُ، وَلَمْ يَبْقَ الْبَتَّةَ غَيْرُ حُكْمِ مُسَبِّبِ الْأَسْبَابِ، فَلِهَذَا اخْتُصَّ النِّدَاءُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِ ذَلِكَ النِّدَاءِ بِذَلِكَ الْيَوْمِ إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ يُفِيدُ أَنَّ هَذَا النِّدَاءَ حَاصِلٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَبَدًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَنَا: اللَّهُ اسْمٌ لِوَاجِبِ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، وَوَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ وَاحِدٌ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَالْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ لَا يُوجَدُ إِلَّا بِإِيجَادِ الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ، وَمَعْنَى الْإِيجَادِ هُوَ تَرْجِيحُ جَانِبِ الْوُجُودِ عَلَى جَانِبِ الْعَدَمِ، وَذَلِكَ التَّرْجِيحُ هُوَ قَهْرٌ لِلْجَانِبِ الْمَرْجُوحِ فَثَبَتَ أَنَّ الْإِلَهَ الْقَهَّارَ وَاحِدٌ أَبَدًا، وَنِدَاءُ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ إِنَّمَا ظَهَرَ مِنْ كَوْنِهِ وَاحِدًا قَهَّارًا، فَإِذَا كَانَ كَوْنُهُ قَهَّارًا بَاقِيًا مِنَ الْأَزَلِ إِلَى الْأَبَدِ لَا جَرَمَ كَانَ نِدَاءُ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ بَاقِيًا فِي جَانِبِ الْمَعْنَى مِنَ الْأَزَلِ إِلَى الْأَبَدِ.

الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ: مِنْ صِفَاتِ ذَلِكَ الْيَوْمِ قَوْلُهُ الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا شَرَحَ صِفَاتِ الْقَهْرِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَرْدَفَهُ بِبَيَانِ صِفَاتِ الْعَدْلِ وَالْفَضْلِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَقَالَ: الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا الْكَلَامُ اشْتَمَلَ عَلَى أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: أَوَّلُهَا: إِثْبَاتُ الْكَسْبِ لِلْإِنْسَانِ وَالثَّانِي: أَنَّ كَسْبَهُ يُوجِبُ الْجَزَاءَ وَالثَّالِثُ: أَنَّ ذَلِكَ الْجَزَاءَ إِنَّمَا يُسْتَوْفَى فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَهَذِهِ الْكَلِمَةُ عَلَى اخْتِصَارِهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى هَذِهِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَهِيَ أُصُولٌ عَظِيمَةُ الْمُوقِعِ فِي الدِّينِ، وَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُ هَذِهِ الْأُصُولِ مِرَارًا، وَلَا بَأْسَ بِذِكْرِ بَعْضِ النُّكَتِ فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الْأُصُولِ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ إِثْبَاتُ الْكَسْبِ لِلْإِنْسَانِ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِ أَعْضَائِهِ سَلِيمَةً صَالِحَةً لِلْفِعْلِ وَالتَّرْكِ فَمَا دَامَ يَبْقَى عَلَى هَذَا الِاسْتِوَاءِ امْتَنَعَ صُدُورُ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ عَنْهُ، فَإِذَا انْضَافَ إِلَيْهِ الدَّاعِي إِلَى الْفِعْلِ أَوِ الدَّاعِي إِلَى التَّرْكِ وَجَبَ صُدُورُ ذَلِكَ الْفِعْلُ أَوِ التَّرْكُ عَنْهُ. وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ بَيَانُ تَرَتُّبِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْأَفْعَالَ عَلَى قِسْمَيْنِ مِنْهَا مَا يَكُونُ الدَّاعِي إِلَيْهِ طَلَبُ الْخَيْرَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ الْحَاصِلَةِ فِي عَالَمِ الدُّنْيَا، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ الدَّاعِي إِلَيْهِ طَلَبُ الْخَيْرَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ الَّتِي لَا يَظْهَرُ كَمَالُهَا إِلَّا فِي عَالَمِ الْآخِرَةِ وَقَدْ ثَبَتَ بِالتَّجْرِبَةِ أَنَّ كَثْرَةَ الْأَفْعَالِ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْمَلَكَاتِ الرَّاسِخَةِ، فَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ استحكمت رحمته رَغْبَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْجُسْمَانِيَّاتِ، فَعِنْدَ الْمَوْتِ يَحْصُلُ الْفِرَاقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَطْلُوبِهِ عَلَى أَعْظَمِ الْوُجُوهِ وَيَعْظُمُ عَلَيْهِ الْبَلَاءُ، وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْقِسْمُ الثَّانِي فَعِنْدَ الْمَوْتِ يُفَارِقُ الْمَبْغُوضَ وَيَتَّصِلُ بِالْمَحْبُوبِ فَتَعْظُمُ الْآلَاءُ وَالنَّعْمَاءُ، فَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْكَسْبِ، وَمَعْنَى كَوْنِ ذَلِكَ الْكَسْبِ مُوجِبًا لِلْجَزَاءِ، فَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ كَمَالَ الْجَزَاءِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَهَذَا قَانُونٌ كُلِّيٌّ عَقْلِيٌّ، وَالشَّرِيعَةُ/ الْحَقَّةُ أَتَتْ بِمَا يُقَوِّي هَذَا الْقَانُونَ الْكُلِّيَّ فِي تَفَاصِيلِ الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا نَقُولُ لَوْ كَانَ شَيْءٌ مِنْ أَنْوَاعِ الضَّرَرُ مَشْرُوعًا لَكَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا لِكَوْنِهِ جَزَاءً عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْجِنَايَاتِ أَوْ لَا لِكَوْنِهِ جَزَاءً وَالْقِسْمَانِ بَاطِلَانِ، فَبَطَلَ الْقَوْلُ بِكَوْنِهِ مَشْرُوعًا، أَمَّا بَيَانُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا لِيَكُونَ جَزَاءً عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَعْمَالِ فَلِأَنَّ هَذَا النَّصَّ يَقْتَضِي تَأْخِيرَ الْأَجْزِيَةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَإِثْبَاتُهُ فِي الدُّنْيَا يَكُونُ عَلَى خِلَافِ هَذَا النَّصِّ، وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّهُ لَا

<<  <  ج: ص:  >  >>