للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اعْلَمْ أَنَّ مُؤْمِنَ آلِ فِرْعَوْنَ لَمَّا أَقَامَ أَنْوَاعَ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى قَتْلِ مُوسَى، خَوَّفَهُمْ فِي ذَلِكَ بِعَذَابِ الله فقال: يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ يَعْنِي قَدْ عَلَوْتُمُ النَّاسَ وَقَهَرْتُمُوهُمْ، فَلَا تُفْسِدُوا أَمْرَكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَلَا تَتَعَرَّضُوا لِبَأْسِ اللَّهِ وَعَذَابِهِ، فَإِنَّهُ لَا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ، وإنما قال: يَنْصُرُنا وجاءَنا لِأَنَّهُ كَانَ يُظْهِرُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ مِنْهُمْ وَأَنَّ الَّذِي يَنْصَحُهُمْ بِهِ هُوَ مُشَارِكٌ لَهُمْ فِيهِ، وَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ الْمُؤْمِنُ هَذَا الْكَلَامَ قالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرى أَيْ لَا أُشِيرُ إِلَيْكُمْ/ بِرَأْيٍ سِوَى مَا ذَكَرْتُهُ أَنَّهُ يَجِبُ قَتْلُهُ حَسْمًا لِمَادَّةِ الْفِتْنَةِ وَما أَهْدِيكُمْ بِهَذَا الرَّأْيِ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ وَالصَّلَاحِ، ثُمَّ حَكَى تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ الْمُؤْمِنَ رَدَّ هَذَا الْكَلَامَ عَلَى فِرْعَوْنَ فَقَالَ: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ ذَلِكَ الْمُؤْمِنِ أَنَّهُ كَانَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ، وَالَّذِي يَكْتُمُ كَيْفَ يُمْكِنُهُ أَنَّ يَذْكُرَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ مَعَ فِرْعَوْنَ، وَلِهَذَا السَّبَبِ حَصَلَ هَاهُنَا قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا قال: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى [غافر: ٢٦] لَمْ يُصَرِّحْ ذَلِكَ الْمُؤْمِنُ بِأَنَّهُ عَلَى دِينِ مُوسَى، بَلْ أَوْهَمَ أَنَّهُ مَعَ فِرْعَوْنَ وَعَلَى دِينِهِ، إِلَّا أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ تَقْتَضِي تَرْكَ قَتْلِ مُوسَى، لِأَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُ إِلَّا الدَّعْوَةُ إِلَى اللَّهِ وَالْإِتْيَانُ بِالْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ وَهَذَا لَا يُوجِبُ الْقَتْلَ، وَالْإِقْدَامُ عَلَى قَتْلِهِ يُوجِبُ الْوُقُوعَ فِي أَلْسِنَةِ النَّاسِ بِأَقْبَحِ الْكَلِمَاتِ، بَلِ الْأَوْلَى أَنْ يُؤَخَّرَ قَتْلُهُ وَأَنْ يُمْنَعَ مِنْ إِظْهَارِ دِينِهِ، لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ إِنْ كَانَ كَاذِبًا كَانَ وَبَالُ كَذِبِهِ عَائِدًا إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا حَصَلَ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ [غافر: ٢٨] يَعْنِي أَنَّهُ إِنْ صَدَقَ فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنْ إِثْبَاتِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الْحَكِيمِ فَهُوَ لَا يَهْدِي الْمُسْرِفَ الْكَذَّابَ، فَأَوْهَمَ فِرْعَوْنَ أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ أَنَّهُ يُرِيدُ مُوسَى وَهُوَ إِنَّمَا كَانَ يَقْصِدُ بِهِ فِرْعَوْنَ، لِأَنَّ الْمُسْرِفَ الْكَذَّابَ هُوَ فِرْعَوْنُ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ مُؤْمِنَ آلِ فِرْعَوْنَ كَانَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَوَّلًا، فَلَمَّا قَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى أَزَالَ الْكِتْمَانَ وَأَظْهَرَ كَوْنَهُ عَلَى دِينِ مُوسَى، وَشَافَهَ فِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ هَذَا الْمُؤْمِنِ أَنْوَاعًا من الكلمات ذكرها لفرعون فالأول: قوله يَا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ وَالتَّقْدِيرُ مِثْلُ أَيَّامِ الْأَحْزَابِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا أَضَافَ الْيَوْمَ إِلَى الْأَحْزَابِ وَفَسَّرَهُمْ بِقَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ، فَحِينَئِذٍ ظَهَرَ أَنَّ كُلَّ حِزْبٍ كَانَ لَهُ يَوْمٌ مُعَيَّنٌ فِي الْبَلَاءِ، فَاقْتَصَرَ مِنَ الْجَمْعِ عَلَى ذِكْرِ الْوَاحِدِ لِعَدَمِ الِالْتِبَاسِ، ثُمَّ فَسَّرَ قَوْلَهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ بِقَوْلِهِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَدَأْبُ هَؤُلَاءِ دُونَهُمْ فِي عملهم من الكفار وَالتَّكْذِيبِ وَسَائِرِ الْمَعَاصِي، فَيَكُونُ ذَلِكَ دَائِبًا وَدَائِمًا لَا يَفْتَرُونَ عَنْهُ، وَلَا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مُضَافٍ يُرِيدُ مِثْلَ جَزَاءِ دَأْبِهِمْ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ خَوَّفَهُمْ بِهَلَاكٍ مُعَجَّلٍ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ خَوَّفَهُمْ أَيْضًا بِهَلَاكِ الْآخِرَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ.

وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مِنْ كَلِمَاتِ ذَلِكَ الْمُؤْمِنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ يَعْنِي أَنَّ تَدْمِيرَ أُولَئِكَ الْأَحْزَابِ كَانَ عَدْلًا، لِأَنَّهُمُ اسْتَوْجَبُوهُ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ لِلْأَنْبِيَاءِ، فَتِلْكَ الْجُمْلَةُ قَائِمَةٌ هَاهُنَا، فَوَجَبَ حُصُولُ الْحُكْمِ هَاهُنَا، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُرِيدُ أَنْ يَظْلِمَ بَعْضُ الْعِبَادِ بَعْضًا، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُرِيدُ ظُلْمَ أَحَدٍ مِنَ الْعِبَادِ، فَلَوْ خَلَقَ الْكُفْرَ فِيهِمْ ثُمَّ عَذَّبَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْكُفْرِ لَكَانَ ظَالِمًا، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ الظُّلْمَ الْبَتَّةَ ثَبَتَ أَنَّهُ غَيْرُ خَالِقٍ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ، لِأَنَّهُ لَوْ خَلَقَهَا لَأَرَادَهَا، وَثَبَتَ أَيْضًا أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الظُّلْمِ، إِذْ لو

<<  <  ج: ص:  >  >>