فَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَةِ الْإِلَهِ الَّذِي يُثْبِتُهُ مُوسَى فَنَقُولُ هَذَا مَا حَصَّلْتُهُ فِي هَذَا الْبَابِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ فَاسِدَةٌ لِأَنَّ طُرُقَ الْعِلْمِ ثَلَاثَةٌ الْحِسُّ وَالْخَبَرُ وَالنَّظَرُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ انْتِفَاءِ طَرِيقٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْحِسُّ انْتِفَاءَ الْمَطْلُوبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَدْ بَيَّنَ لِفِرْعَوْنَ/ أَنَّ الطَّرِيقَ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا هُوَ الْحُجَّةُ وَالدَّلِيلُ كَمَا قَالَ: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ... رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [الشُّعَرَاءِ: ٢٦، ٢٨] إِلَّا أَنَّ فِرْعَوْنَ لِخُبْثِهِ وَمَكْرِهِ تَغَافَلَ عَنْ ذَلِكَ الدَّلِيلِ، وَأَلْقَى إِلَى الْجُهَّالِ أَنَّهُ لَمَّا كان لا طريق إلى الْإِحْسَاسُ بِهَذَا الْإِلَهِ وَجَبَ نَفْيُهُ، فَهَذَا مَا عِنْدِي فِي هَذَا الْبَابِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ وَالْعِصْمَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ جَوَاهِرَ الْأَفْلَاكِ وَحَرَكَاتِهَا بِحَيْثُ تَكُونُ هِيَ الْأَسْبَابُ لِحُدُوثِ الْحَوَادِثِ فِي هَذَا الْعَالَمِ الْأَسْفَلِ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا لَيْسَتْ أَسْبَابًا إِلَّا لِحَوَادِثِ هَذَا الْعَالَمِ قَالُوا وَيُؤَكِّدُ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ ص فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ [ص: ١٠] أَمَّا الْمُفَسِّرُونَ فَقَدْ ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ أَنَّ المراد بأسباب السموات طُرُقُهَا وَأَبْوَابُهَا وَمَا يُؤَدِّي إِلَيْهَا، وَكُلُّ مَا أَدَّاكَ إِلَى شَيْءٍ فَهُوَ سَبَبٌ كَالرَّشَادِ وَنَحْوِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَتِ الْيَهُودُ أَطْبَقَ الْبَاحِثُونَ عَنْ تَوَارِيخِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَفِرْعَوْنَ أَنَّ هَامَانَ مَا كَانَ مَوْجُودًا الْبَتَّةَ فِي زَمَانِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ وَإِنَّمَا جَاءَ بَعْدَهُمَا بِزَمَانٍ مَدِيدٍ وَدَهْرٍ دَاهِرٍ، فَالْقَوْلُ بِأَنَّ هَامَانَ كَانَ مَوْجُودًا فِي زَمَانِ فِرْعَوْنَ خَطَأٌ فِي التَّارِيخِ، وَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّ وُجُودَ شَخْصٍ يُسَمَّى بِهَامَانَ بَعْدَ زَمَانِ فِرْعَوْنَ لَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُودِ شَخْصٍ آخَرَ يُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ فِي زَمَانِهِ، قَالُوا لِأَنَّ هَذَا الشَّخْصَ الْمُسَمَّى بِهَامَانَ الَّذِي كَانَ مَوْجُودًا فِي زَمَانِ فِرْعَوْنَ مَا كَانَ شَخْصًا خَسِيسًا فِي حَضْرَةِ فِرْعَوْنَ بَلْ كَانَ كَالْوَزِيرِ لَهُ، وَمِثْلُ هَذَا الشَّخْصِ لَا يَكُونُ مَجْهُولَ الْوَصْفِ وَالْحِلْيَةِ فَلَوْ كَانَ مَوْجُودًا لَعُرِفَ حَالُهُ، وَحَيْثُ أَطْبَقَ الْبَاحِثُونَ عَنْ أَحْوَالِ فِرْعَوْنَ وَمُوسَى أَنَّ الشَّخْصَ الْمُسَمَّى بِهَامَانَ مَا كَانَ مَوْجُودًا فِي زَمَانِ فِرْعَوْنَ وَإِنَّمَا جَاءَ بَعْدَهُ بِأَدْوَارٍ علم أن غَلَطٌ وَقَعَ فِي التَّوَارِيخِ، قَالُوا وَنَظِيرُ هَذَا أَنَّا نَعْرِفُ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ إِنَّمَا جَاءَ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَوْ أَنَّ قَائِلًا ادَّعَى أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ كَانَ مَوْجُودًا فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَزَعَمَ أَنَّهُ شَخْصٌ آخَرُ سِوَى الْأَوَّلِ وَهُوَ أَيْضًا يُسَمَّى بِأَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّ أَصْحَابَ التَّوَارِيخِ يَقْطَعُونَ بِخَطَئِهِ فَكَذَا هَاهُنَا وَالْجَوَابُ: أَنَّ تَوَارِيخَ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ قَدْ طَالَ الْعَهْدُ بِهَا وَاضْطَرَبَتِ الْأَحْوَالُ وَالْأَدْوَارُ فَلَمْ يَبْقَ عَلَى كَلَامِ أَهْلِ التَّوَارِيخِ اعْتِمَادٌ فِي هَذَا الْبَابِ، فكان الأخذ بقول الله أَوْلَى بِخِلَافِ حَالِ رَسُولِنَا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّ هَذِهِ التَّوَارِيخَ قَرِيبَةٌ غَيْرُ مُضْطَرِبَةٍ بَلْ هِيَ مَضْبُوطَةٌ فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْبَابَيْنِ، فَهَذَا جُمْلَةُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَبَاحِثِ الْمَعْنَوِيَّةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَبَقِيَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَبَاحِثِ اللَّفْظِيَّةِ.
قِيلَ الصرح البناء الظاهر الذي لَا يَخْفَى عَلَى النَّاظِرِ وَإِنْ بَعُدَ، اشْتَقُّوهُ من صرح الشيء إذا ظهر وأَسْبابَ السَّماواتِ طُرُقُهَا، فَإِنْ قِيلَ مَا فَائِدَةُ هَذَا التكرير. ولو قيل: لعلي أبلغ الأسباب السموات، كَانَ كَافِيًا؟ أَجَابَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عَنْهُ فَقَالَ: إِذَا أُبْهِمَ الشَّيْءُ ثُمَّ أُوضِحَ كَانَ تَفْخِيمًا لشأنه، فلما أراد تفخيم أسباب السموات أَبْهَمَهَا ثُمَّ أَوْضَحَهَا، وَقَوْلُهُ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى قَرَأَ حَفْصٌ/ عَنْ عَاصِمٍ فَأَطَّلِعَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ، قَالَ الْمُبَرِّدُ: مَنْ رَفَعَ فَقَدْ عَطَفَهُ عَلَى قَوْلِهِ أَبْلُغُ وَالتَّقْدِيرُ لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ ثُمَّ أَطَّلِعُ إِلَّا أَنَّ حَرْفَ ثُمَّ أَشَدُّ تَرَاخِيًا مِنَ الْفَاءِ، وَمَنْ نَصَبَ جَعَلَهُ جَوَابًا، وَالْمَعْنَى لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ فَمَتَى بَلَغْتُهَا أَطَّلِعُ وَالْمَعْنَى مُخْتَلِفٌ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ: لَعَلِّي أطلع والثاني: لعلي أبلغ وأنا ضامر أَنِّي مَتَى بَلَغْتُ فَلَا بُدَّ وَأَنْ أَطَّلِعَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute