للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا رَجَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الطُّورِ إِلَى قَوْمِهِ/ فَرَأَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ وَقَالَ لِأَخِيهِ وَالسَّامِرِيِّ مَا قَالَ وَحَرَّقَ الْعِجْلَ وَأَلْقَاهُ فِي الْبَحْرِ، اخْتَارَ مِنْ قَوْمِهِ سَبْعِينَ رَجُلًا مِنْ خِيَارِهِمْ فَلَمَّا خَرَجُوا إِلَى الطُّورِ قَالُوا لِمُوسَى: سَلْ رَبَّكَ حَتَّى يُسْمِعَنَا كَلَامَهُ، فَسَأَلَ موسى عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ فَأَجَابَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَلَمَّا دَنَا مِنَ الْجَبَلِ وَقَعَ عَلَيْهِ عَمُودٌ مِنَ الْغَمَامِ وَتَغَشَّى الْجَبَلُ كُلُّهُ وَدَنَا مِنْ مُوسَى ذَلِكَ الْغَمَامُ حَتَّى دَخَلَ فِيهِ فَقَالَ لِلْقَوْمِ: ادْخُلُوا وَعُوا، وَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَتَى كَلَّمَهُ رَبُّهُ وَقَعَ عَلَى جَبْهَتِهِ نُورٌ سَاطِعٌ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ النَّظَرَ إِلَيْهِ، وَسَمِعَ الْقَوْمُ كَلَامَ اللَّهِ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ لَهُ: افْعَلْ وَلَا تَفْعَلْ، فَلَمَّا تَمَّ الْكَلَامُ انْكَشَفَ عَنْ مُوسَى الْغَمَامُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ فَقَالَ الْقَوْمُ بَعْدَ ذَلِكَ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً، فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَمَاتُوا جَمِيعًا وَقَامَ مُوسَى رَافِعًا يديه إلى السماء يدعو ويقول: يا إليه اخْتَرْتُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَبْعِينَ رَجُلًا لِيَكُونُوا شُهُودِي بِقَبُولِ تَوْبَتِهِمْ، فَأَرْجِعُ إِلَيْهِمْ وَلَيْسَ مَعِي مِنْهُمْ وَاحِدٌ، فَمَا الَّذِي يَقُولُونَ فِيَّ، فَلَمْ يَزَلْ مُوسَى مُشْتَغِلًا بِالدُّعَاءِ حَتَّى رَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِمْ أَرْوَاحَهُمْ وَطَلَبَ تَوْبَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ فَقَالَ: لَا إِلَّا أَنْ يَقْتُلُوا أَنْفُسَهُمُ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ كَانَتْ بَعْدَ الْقَتْلِ، قَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا تَابَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ بِأَنْ قَتَلُوا أَنْفُسَهُمْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ مُوسَى فِي نَاسٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ مِنْ عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ، فَاخْتَارَ مُوسَى سَبْعِينَ رَجُلًا، فَلَمَّا أَتَوُا الطُّورَ قَالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً، فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَمَاتُوا فَقَامَ مُوسَى يَبْكِي وَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَاذَا أَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإِنِّي أَمَرْتُهُمْ بِالْقَتْلِ ثُمَّ اخْتَرْتُ مِنْ بَقِيَّتِهِمْ هَؤُلَاءِ، فَإِذَا رَجَعْتُ إِلَيْهِمْ وَلَا يَكُونُ مَعِي مِنْهُمْ أَحَدٌ فَمَاذَا أَقُولُ لَهُمْ؟ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى أَنَّ هَؤُلَاءِ السَّبْعِينَ مِمَّنِ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ إِلَهًا فَقَالَ مُوسَى: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ [الْأَعْرَافِ: ١٥٥] إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ [الْأَعْرَافِ: ١٥٦] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَحْيَاهُمْ فَقَامُوا وَنَظَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَى الْآخَرِ كَيْفَ يُحْيِيهِ اللَّهُ تَعَالَى، فَقَالُوا: يَا مُوسَى إِنَّكَ لَا تَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاكَ فَادْعُهُ يَجْعَلْنَا أَنْبِيَاءَ، فَدَعَاهُ بِذَلِكَ فَأَجَابَ اللَّهُ دَعْوَتَهُ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَرْجِيحِ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ وَكَذَلِكَ لَيْسَ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ سَأَلُوا الرُّؤْيَةَ هُمُ الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ أَوْ غَيْرُهُمْ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ فَمَعْنَاهُ لَا نُصَدِّقُكَ وَلَا نَعْتَرِفُ بِنُبُوَّتِكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [أَيْ] عِيَانًا.

قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: وَهِيَ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِكَ: جَهَرْتُ بِالْقِرَاءَةِ وَبِالدُّعَاءِ كَأَنَّ الَّذِي يَرَى بِالْعَيْنِ جَاهِرٌ بالرؤية والذي يرى بالقلب مخافت بها وانتصار بها عَلَى الْمَصْدَرِ لِأَنَّهَا نَوْعٌ مِنَ الرُّؤْيَةِ، فَنُصِبَتْ بِفِعْلِهَا كَمَا يُنْصَبُ الْقُرْفُصَاءُ بِفِعْلِ الْجُلُوسِ أَوْ عَلَى الْحَالِ بِمَعْنَى ذَوِي جَهْرَةٍ وَقُرِئَ جَهْرَةً بِفَتْحِ الْهَاءِ وَهِيَ إِمَّا مَصْدَرٌ كَالْغَلَبَةِ وَإِمَّا جَمْعُ جَاهِرٍ، وَقَالَ الْقَفَّالُ أَصْلُ الْجَهْرَةِ مِنَ الظُّهُورِ يُقَالُ جَهَرْتُ الشَّيْءَ [إِذَا] كَشَفْتَهُ وَجَهَرْتُ الْبِئْرَ إِذَا كَانَ مَاؤُهَا مُغَطًّى بِالطِّينِ فَنَقَّيْتَهُ حَتَّى ظَهَرَ مَاؤُهُ وَيُقَالُ صَوْتٌ جَهِيرٌ وَرَجُلٌ جَهْوَرِيُّ الصَّوْتِ، إِذَا كَانَ صَوْتُهُ عَالِيًا، وَيُقَالُ:

وَجْهٌ جَهِيرٌ إِذَا كَانَ ظَاهِرَ الْوَضَاءَةِ، وَإِنَّمَا قَالُوا: جَهْرَةً تَأْكِيدًا لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّؤْيَةِ الْعِلْمُ أَوِ التَّخَيُّلُ عَلَى [نَحْوِ] مَا يَرَاهُ النَّائِمُ.

/ أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ فَفِيهِ أَبْحَاثٌ:

الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: اسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ مُمْتَنِعَةٌ، قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: إِنَّهَا لَوْ كَانَتْ