بِالْحِجَابِ، وَمَا بَقِيَ جُزْءٌ مِنْهَا فَارِغًا عَنْ هَذَا الْحِجَابِ فَكَانَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ دَالَّةً عَلَى قُوَّةِ هَذَا الْحِجَابِ، هَكَذَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَهُوَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنَّمَا وَقَعَ الِاقْتِصَارُ عَلَى هَذِهِ الْأَعْضَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَلْبَ مَحَلُّ الْمَعْرِفَةِ وَسُلْطَانُ الْبَدَنِ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ هُمَا الْآلَتَانِ الْمُعَيَّنَتَانِ لِتَحْصِيلِ الْمَعَارِفِ، فَلَمَّا بَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ مَحْجُوبَةٌ كَانَ ذَلِكَ أَقْصَى مَا يُمْكِنُ فِي هَذَا الْبَابِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا تَأَكَّدَتِ النَّفْرَةُ عَنِ الشَّيْءِ صَارَتْ تِلْكَ النَّفْرَةُ فِي الْقَلْبِ فَإِذَا سَمِعَ مِنْهُ كَلَامًا لَمْ يُفْهَمْ مَعْنَاهُ كَمَا يَنْبَغِي، وَإِذَا رَآهُ لَمْ تَصِرْ تِلْكَ الرُّؤْيَةُ سَبَبًا لِلْوُقُوفِ على دقائق أحوالك ذَلِكَ/ الْمَرْئِيِّ، وَذَلِكَ الْمُدْرِكُ وَالشَّاعِرُ هُوَ النَّفْسُ، وَشَدَّةُ نَفْرَةِ النَّفْسِ عَنِ الشَّيْءِ تَمْنَعُهَا مِنَ التَّدَبُّرِ وَالْوُقُوفِ عَلَى دَقَائِقِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ اسْتِعَارَاتٍ كَامِلَةً فِي إِفَادَةِ الْمَعْنَى الْمُرَادِ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى هَذَا الْمَعْنَى عَنِ الْكُفَّارِ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ، وَذَكَرَ أَيْضًا مَا يُقَرِّبُ مِنْهُ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ فَقَالَ: وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ [الْبَقَرَةِ: ٨٨] .
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الثَّلَاثَةَ بِعَيْنِهَا فِي مَعْرِضِ التَّقْرِيرِ وَالْإِثْبَاتِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فَقَالَ: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً [الْأَنْعَامِ: ٢٥] فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا؟ قُلْنَا إِنَّهُ لم يقل هاهنا إِنَّهُمْ كَذَبُوا فِي ذَلِكَ إِنَّمَا الَّذِي ذَمَّهُمْ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّا إِذَا كُنَّا كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ تَكْلِيفُنَا وَتَوْجِيهُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَيْنَا، وَهَذَا الثَّانِي بَاطِلٌ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَذَبُوا فِيهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ لَمَّا وَصَفُوا أَنْفُسَهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثَةِ قَالُوا فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ وَالْمُرَادُ فَاعْمَلْ عَلَى دِينِكَ إِنَّنَا عَامِلُونَ عَلَى دِينِنَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فَاعْمَلْ فِي إِبْطَالِ أَمْرِنَا إِنَّنَا عَامِلُونَ فِي إِبْطَالِ أَمْرِكَ، وَالْحَاصِلُ عِنْدَنَا أَنَّ الْقَوْمَ مَا كَذَبُوا فِي قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ بَلْ إِنَّمَا أَتَوْا بِالْكُفْرِ وَالْكَلَامِ الْبَاطِلِ فِي قَوْلِهِمْ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ.
وَلَمَّا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ هَذِهِ الشُّبْهَةَ أَمَرَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجِيبَ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِقَوْلِهِ قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ وَبَيَانُ هَذَا الْجَوَابِ كَأَنَّهُ يَقُولُ إِنِّي لَا أَقْدِرُ أَنْ أَحْمِلَكُمْ عَلَى الْإِيمَانِ جَبْرًا وَقَهْرًا فَإِنِّي بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَا امْتِيَازَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِلَّا بِمُجَرَّدِ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَوْحَى إِلَيَّ وَمَا أَوْحَى إِلَيْكُمْ فَأَنَا أُبَلِّغُ هَذَا الْوَحْيَ إِلَيْكُمْ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إِنْ شَرَّفَكُمُ اللَّهُ بِالتَّوْحِيدِ وَالتَّوْفِيقِ قَبِلْتُمُوهُ، وَإِنْ خَذَلَكُمْ بِالْحِرْمَانِ رَدَدْتُمُوهُ، وَذَلِكَ لَا يَتَعَلَّقُ بِنَبُّوتِي وَرِسَالَتِي، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ خُلَاصَةَ ذَلِكَ الْوَحْيِ تَرْجِعُ إِلَى أَمْرَيْنِ: الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ، أَمَّا الْعِلْمُ فَالرَّأْسُ وَالرَّئِيسُ فِيهِ مَعْرِفَةُ التَّوْحِيدِ، ذَلِكَ لِأَنَّ الْحَقَّ هُوَ أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ وَإِذَا كَانَ الْحَقُّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نَعْتَرِفَ بِهِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الْفَاتِحَةِ: ٦] وَقَوْلُهُ إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا [فُصِّلَتْ: ٣٠] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ [الْأَنْعَامِ: ١٥٣] وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: فَاسْتَقِيمُوا مُتَوَجِّهِينَ إِلَيْهِ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ مَعْنَاهُ فَاسْتَقِيمُوا لَهُ لِأَنَّ حُرُوفَ الْجَرِّ يُقَامُ بَعْضُهَا مُقَامَ البعض.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute