يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النَّحْلِ: ٥٠] وَأَمَّا أَهْلُ الْأَرْضِ فَلَيْسَ الْأَمْرُ فِي حَقِّهِمْ كَذَلِكَ وَثَالِثُهَا: السَّمَاءُ مَوْصُوفَةٌ بِكَمَالِ الْحَالِ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، قَالُوا إِنَّهَا أَفْضَلُ الْأَلْوَانِ وَهِيَ الْمُسْتَنِيرَةُ، وَأَشْكَالُهَا أَفْضَلُ الْأَشْكَالِ وَهِيَ الْمُسْتَدِيرَةُ، وَمَكَانُهَا أَفْضَلُ الْأَمْكِنَةِ وَهُوَ الْجَوُّ الْعَالِي، وَأَجْرَامُهَا أَفْضَلُ الْأَجْرَامِ وَهِيَ الْكَوَاكِبُ الْمُتَلَأْلِئَةُ بِخِلَافِ الْأَرْضِ فَإِنَّهَا مَكَانُ الظُّلْمَةِ وَالْكَثَافَةِ وَاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَتَغَيُّرِ الذَّوَاتِ وَالصِّفَاتِ، فَلَا جَرَمَ وَقَعَ التَّعْبِيرُ عَنْ تَكَوُّنِ السَّمَاءِ بِالطَّوْعِ وَعَنْ تَكَوُّنِ الْأَرْضِ بِالْكُرْهِ، وَإِذَا كَانَ مَدَارُ خَلْقِ الْأَرْضِ عَلَى الْكُرْهِ كَانَ أَهْلُهَا مَوْصُوفِينَ أَبَدًا بِمَا يُوجِبُ الْكُرْهَ وَالْكَرْبَ وَالْقَهْرَ وَالْقَسْرَ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ ائْتِيا وَمِنْ قَوْلِهِ أَتَيْنا؟، الْجَوَابُ: الْمُرَادُ ائْتِيَا إِلَى الْوُجُودِ وَالْحُصُولِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ كُنْ فَيَكُونُ [البقرة: ١١٧] وَقِيلَ الْمَعْنَى ائْتِيَا عَلَى مَا يَنْبَغِي أَنْ تَأْتِيَا عَلَيْهِ مِنَ الشَّكْلِ وَالْوَصْفِ، أَيْ بِأَرْضٍ مدحوة قرارا ومهادا وأي بسماء مقببة سَقْفًا لَهُمْ، وَمَعْنَى الْإِتْيَانِ الْحُصُولُ وَالْوُقُوعُ عَلَى وَفْقِ الْمُرَادِ، كَمَا تَقُولُ أَتَى عَمَلُهُ مَرْضِيًّا وَجَاءَ مَقْبُولًا، وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لتأتي كل واحدة منكما صَاحِبَتَهَا الْإِتْيَانَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ وَالتَّدْبِيرُ مِنْ كَوْنِ الْأَرْضِ قَرَارًا لِلسَّمَاءِ وَكَوْنِ السَّمَاءِ سَقْفًا لِلْأَرْضِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: هَلَّا قِيلَ طَائِعِينَ عَلَى اللفظ أو طائعات على المعنى، لأنهما سموات وأرضون؟ الجواب:
لما جعلن مخاطبات ومجيبات ووصفن بِالطَّوْعِ وَالْكَرْهِ قِيلَ طَائِعِينَ فِي مَوْضِعِ طَائِعَاتٍ نحو قوله ساجِدِينَ [الأعراف: ١٢٠] ومنهم من استدل به على كون السموات أحياء وقال الأرض في جوف السموات أَقَلُّ مِنَ الذَّرَّةِ الصَّغِيرَةِ فِي جَوْفِ الْجَبَلِ الْكَبِيرِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ صَارَتِ اللَّفْظَةُ الدَّالَّةُ الْعَقْلَ وَالْحَيَاةُ غَالِبَةً، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ بَاطِلٌ، لِإِجْمَاعِ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى فَسَادِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَقَضَاءُ الشَّيْءِ إِنَّمَا هُوَ إِتْمَامُهُ وَالْفَرَاغُ مِنْهُ وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ فَقَضاهُنَّ يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى السَّمَاءِ عَلَى الْمَعْنَى كَمَا قَالَ: طائِعِينَ وَنَحْوُهُ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ [الْحَاقَّةِ: ٧] وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرًا مبهما مفسرا بسبع سموات وَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّصْبَيْنِ أَنَّ أَحَدَهُمَا عَلَى الْحَالِ وَالثَّانِيَ عَلَى التَّمْيِيزِ.
ذَكَرَ أَهْلُ الْأَثَرِ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمِ الْأَحَدِ وَالِاثْنَيْنِ وخلق سائر ما في الأرض في يوم الثلاثاء والأربعاء، وخلق السموات وَمَا فِيهَا فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ وَالْجُمُعَةِ وَفَرَغَ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَخَلَقَ فِيهَا آدَمَ وَهِيَ السَّاعَةُ الَّتِي تَقُومُ فِيهَا الْقِيَامَةُ، فَإِنْ قِيلَ الْيَوْمُ عِبَارَةٌ عَنِ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ وَذَلِكَ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِسَبَبِ طُلُوعِ الشَّمْسِ وغروبها، وقبل حدوث السموات وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ كَيْفَ يُعْقَلُ حُصُولُ الْيَوْمِ؟ قُلْنَا مَعْنَاهُ إِنَّهُ مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ مَا لَوْ حَصَلَ هُنَاكَ فَلَكٌ وَشَمْسٌ لَكَانَ الْمِقْدَارُ مُقَدَّرًا بِيَوْمٍ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها قَالَ مُقَاتِلٌ أَمَرَ فِي كُلِّ سَمَاءٍ بِمَا أَرَادَ، وَقَالَ قَتَادَةُ خَلَقَ فِيهَا شَمْسَهَا وَقَمَرَهَا وَنُجُومَهَا، وَقَالَ السُّدِّيُّ خَلَقَ فِي كُلِّ سَمَاءِ خَلَقَهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْبِحَارِ وَجِبَالِ الْبَرَدِ، قَالَ وَلِلَّهِ فِي كُلِّ سَمَاءٍ بَيْتٌ يَحُجُّ إِلَيْهِ وَيَطُوفُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُقَابِلَ الْكَعْبَةِ وَلَوْ وَقَعَتْ مِنْهُ حَصَاةٌ مَا وَقَعَتْ إِلَّا عَلَى الْكَعْبَةِ، وَالْأَقْرَبُ أَنْ يُقَالَ قَدْ ثَبَتَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ أَنَّهُ يَكْفِي فِي حُسْنِ الْإِضَافَةِ أَدْنَى سَبَبٍ، وَلِلَّهِ تَعَالَى عَلَى أَهْلِ كُلِّ سَمَاءٍ تَكْلِيفٌ خَاصٌّ، فَمِنَ الْمَلَائِكَةِ مَنْ هُوَ في القيام من أَوَّلِ خَلْقِ الْعَالَمِ إِلَى قِيَامِ الْقِيَامَةِ، وَمِنْهُمْ رُكُوعٌ لَا يَنْتَصِبُونَ وَمِنْهُمْ سُجُودٌ لَا يَرْفَعُونَ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْأَمْرُ مُخْتَصًّا بِأَهْلِ ذَلِكَ السَّمَاءِ كَانَ ذَلِكَ الْأَمْرُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute