للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ مَعْنَاهُ: فَإِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ وَلَسْتُمْ بِمَلَائِكَةٍ، فَأَنْتُمْ لَسْتُمْ بِرُسُلٍ، وَإِذَا لَمْ تَكُونُوا مِنَ الرُّسُلِ لَمْ يَلْزَمْنَا قَبُولُ قَوْلِكُمْ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ.

وَاعْلَمْ أَنَّا بَالَغْنَا فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذِهِ الشُّبُهَاتِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَقَوْلُهُ أُرْسِلْتُمْ بِهِ لَيْسَ بِإِقْرَارٍ مِنْهُمْ بِكَوْنِ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ رُسُلًا، وَإِنَّمَا ذَكَرُوهُ حِكَايَةً لِكَلَامِ الرُّسُلِ أَوْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ، كَمَا قَالَ فِرْعَوْنَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشُّعَرَاءِ: ٢٧] .

رُوِيَ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ فِي مَلَأٍ مِنْ قُرَيْشٍ: الْتَبَسَ عَلَيْنَا أَمْرُ مُحَمَّدٍ، فَلَوِ الْتَمَسْتُمْ لَنَا رَجُلًا عَالِمًا بِالشِّعْرِ وَالسِّحْرِ وَالْكِهَانَةِ فَكَلَّمَهُ، ثُمَّ أَتَانَا بِبَيَانٍ عَنْ أَمْرِهِ، فَقَالَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ الشِّعْرَ وَالسِّحْرَ وَالْكِهَانَةَ وَعَلِمْتُ مِنْ ذَلِكَ عِلْمًا وَمَا يَخْفَى عَلَيَّ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ هَاشِمٌ؟ أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ؟ أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ عَبْدُ اللَّهِ؟ لِمَ تَشْتُمُ آلِهَتَنَا وَتُضَلِّلُنَا؟ فَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الرِّيَاسَةَ عَقَدْنَا لَكَ اللِّوَاءَ فَكُنْتَ رَئِيسَنَا، وَإِنْ تَكُنْ بِكَ الْبَاءَةُ زَوَّجْنَاكَ عَشْرَ نِسْوَةٍ تَخْتَارُهُنَّ، أَيَّ بَنَاتِ مَنْ شِئْتَ مِنْ قُرَيْشٍ، وَإِنْ كَانَ الْمَالُ مُرَادَكَ جَمَعْنَا لَكَ مَا تَسْتَغْنِي بِهِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاكِتٌ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِلَى قَوْلِهِ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ فَأَمْسَكَ عُتْبَةُ عَلَى فِيهِ وَنَاشَدَهُ بِالرَّحِمِ، وَرَجَعَ إلى أهله ولم يخرج إلى قريش، فلم احْتَبَسَ عَنْهُمْ قَالُوا، لَا نَرَى عُتْبَةَ إِلَّا قَدْ صَبَأَ، فَانْطَلَقُوا إِلَيْهِ وَقَالُوا يَا عُتْبَةُ مَا حَبَسَكَ عَنَّا إِلَّا أَنَّكَ قَدْ صَبَأْتَ: فَغَضِبَ وَأَقْسَمَ لَا يُكَلِّمُ مُحَمَّدًا أَبَدًا، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ كَلَّمْتُهُ فَأَجَابَنِي بِشَيْءٍ مَا هُوَ بِشِعْرٍ وَلَا سِحْرٍ وَلَا كِهَانَةٍ، وَلَمَّا بَلَغَ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ أَمْسَكْتُ بِفِيهِ وَنَاشَدْتُهُ بِالرَّحِمِ، وَلَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ مُحَمَّدًا إِذَا قَالَ شَيْئًا لَمْ يَكْذِبْ فَخِفْتُ أَنْ يَنْزِلَ بِكُمُ الْعَذَابُ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ كُفْرَ قَوْمِ عَادٍ وَثَمُودَ عَلَى الْإِجْمَالِ بَيَّنَ خَاصِّيَّةَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ فَقَالَ: فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَهَذَا الِاسْتِكْبَارُ فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: إِظْهَارُ النَّخْوَةِ وَالْكِبْرِ، وَعَدَمُ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْغَيْرِ وَالثَّانِي: الِاسْتِعْلَاءُ عَلَى الْغَيْرِ/ وَاسْتِخْدَامُهُمْ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى سَبَبَ ذَلِكَ الِاسْتِكْبَارِ وَهُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً وَكَانُوا مَخْصُوصِينَ بِكِبَرِ الْأَجْسَامِ وَشِدَّةِ الْقُوَّةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَغْتَرُّوا بِشِدَّةِ قُوَّتِهِمْ، فَقَالَ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً يَعْنِي أَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا أَقْوَى مِنْ غَيْرِهِمْ، فَاللَّهُ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً، فَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ فِي الْقُوَّةِ تُوجِبُ كَوْنَ النَّاقِصِ فِي طَاعَةِ الْكَامِلِ، فَهَذِهِ الْمُعَامَلَةُ تُوجِبُ عَلَيْهِمْ كَوْنَهُمْ مُنْقَادِينَ لِلَّهِ تَعَالَى، خَاضِعِينَ لِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ.

وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إِثْبَاتِ الْقُدْرَةِ لِلَّهِ، فَقَالُوا الْقُوَّةُ لِلَّهِ تَعَالَى وَيَتَأَكَّدُ هَذَا بِقَوْلِهِ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ الْقُوَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى وَيَتَأَكَّدُ هَذَا بِقَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذَّارِيَاتِ: ٥٨] فَإِنْ قِيلَ صِيغَةُ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ إِنَّمَا تَجْرِي بَيْنَ شَيْئَيْنِ لِأَحَدِهِمَا مَعَ الْآخَرِ نِسْبَةٌ، لَكِنَّ قُدْرَةَ الْعَبْدِ مُتَنَاهِيَةٌ وَقُدْرَةَ اللَّهِ لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَالْمُتَنَاهِي لَا نِسْبَةَ لَهُ إِلَى غَيْرِ الْمُتَنَاهِي، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً؟ قُلْنَا هَذَا وَرَدَ عَلَى قَانُونِ قَوْلِنَا اللَّهُ أَكْبَرُ.

ثُمَّ قَالَ: وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَنَّهَا حَقٌّ وَلَكِنَّهُمْ جَحَدُوا كَمَا يَجْحَدُ الْمُوِدَعُ الْوَدِيعَةَ.

وَاعْلَمْ أَنَّ نَظْمَ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ: أَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ، وَقَوْلُهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>