للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

خَلَقَ هَذِهِ الْأَصْوَاتَ وَالْحُرُوفَ فِي هَذِهِ الْأَعْضَاءِ، وَهَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ عَلَى أُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ لِأَنَّ مَذْهَبَهُمْ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ هُوَ الَّذِي فَعَلَ الْكَلَامَ، لَا مَا كَانَ مَوْصُوفًا بِالْكَلَامِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْكَلَامَ فِي الشَّجَرَةِ وَكَانَ الْمُتَكَلِّمُ بِذَلِكَ الْكَلَامِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لَا الشَّجَرَةُ، فَهَهُنَا لَوْ قُلْنَا إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْأَصْوَاتَ وَالْحُرُوفَ فِي تِلْكَ الْأَعْضَاءِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لَا تِلْكَ، وَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْمُتَكَلِّمُ بِذَلِكَ الْكَلَامِ هُوَ اللَّهُ لَا تِلْكَ الْأَعْضَاءُ، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الشَّهَادَةَ شَهَادَةٌ صَدَرَتْ مِنْ تِلْكَ الْأَعْضَاءِ لَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ وَأَيْضًا أَنَّهُمْ قَالُوا لِتِلْكَ الْأَعْضَاءِ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا فَقَالَتِ الْأَعْضَاءُ أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَكُلُّ هَذِهِ الْآيَاتِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِتِلْكَ الْكَلِمَاتِ هِيَ تِلْكَ الْأَعْضَاءُ، وَأَنَّ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ لَيْسَتْ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى، فَهَذَا تَوْجِيهُ الْإِشْكَالِ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ، وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الشَّهَادَةِ بِظُهُورِ أَمَارَاتٍ مَخْصُوصَةٍ عَلَى هَذِهِ الْأَعْضَاءِ دَالَّةٍ عَلَى صُدُورِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ مِنْهُمْ، فَهَذَا عُدُولٌ عَنِ الْحَقِيقَةِ إِلَى الْمَجَازِ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، فَهَذَا مُنْتَهَى الْكَلَامِ فِي هَذَا الْبَحْثِ، أَمَّا عَلَى مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا فَهَذَا الْإِشْكَالُ غَيْرُ لَازِمٍ، لِأَنَّ عِنْدَنَا الْبِنْيَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا لِلْحَيَاةِ وَلَا لِلْعِلْمِ وَلَا لِلْقُدْرَةِ، فَاللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْعَقْلِ وَالْقُدْرَةِ وَالنُّطْقِ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْإِشْكَالُ زَائِلٌ وَهَذِهِ الْآيَةِ يَحْسُنُ التَّمَسُّكُ بِهَا فِي بَيَانِ أَنَّ الْبِنْيَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا لِلْحَيَاةِ وَلَا لِشَيْءٍ مِنَ الصِّفَاتِ الْمَشْرُوطَةِ بِالْحَيَاةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا رَأَيْتُ لِلْمُفَسِّرِينَ فِي تَخْصِيصِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ الثَّلَاثَةِ بِالذِّكْرِ سَبَبًا وَفَائِدَةً، وَأَقُولُ لَا شَكَّ أَنَّ الْحَوَاسَّ خَمْسَةٌ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالشَّمُّ وَالذَّوْقُ وَاللَّمْسُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ آلَةَ اللمس هي الجلد، فالله تعالى ذكر هاهنا مِنَ الْحَوَاسِّ وَهِيَ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَاللَّمْسُ، وَأَهْمَلَ ذِكْرَ نَوْعَيْنِ وَهُمَا الذَّوْقُ وَالشَّمُّ، لِأَنَّ الذَّوْقَ دَاخِلٌ فِي اللَّمْسِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، لِأَنَّ إِدْرَاكَ الذَّوْقِ إِنَّمَا يَتَأَتَّى بِأَنْ تَصِيرَ جِلْدَةُ اللِّسَانِ وَالْحَنَكِ مُمَاسَّةً لِجِرْمِ الطَّعَامِ، فَكَانَ هَذَا دَاخِلًا فِيهِ فَبَقِيَ حِسُّ الشَّمِّ وَهُوَ حِسٌّ ضَعِيفٌ فِي الْإِنْسَانِ، وَلَيْسَ لِلَّهِ فِيهِ تَكْلِيفٌ وَلَا أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ الْمُرَادُ مِنْ شَهَادَةِ الْجُلُودِ شَهَادَةُ الْفُرُوجِ قَالَ وَهَذَا مِنْ بَابِ الْكِنَايَاتِ كَمَا قَالَ: وَلكِنْ لَا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا [الْبَقَرَةِ: ٢٣٥] وَأَرَادَ النِّكَاحَ وَقَالَ: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ [النِّسَاءِ: ٤٣] وَالْمُرَادُ قَضَاءُ الْحَاجَةِ

وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَوَّلُ مَا يَتَكَلَّمُ مِنَ الْآدَمِيِّ فَخِذُهُ وَكَفُّهُ»

وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَتَكُونُ هَذِهِ/ الْآيَةُ وَعِيدًا شَدِيدًا فِي الْإِتْيَانِ بِالزِّنَا، لِأَنَّ مُقَدِّمَةَ الزِّنَا إِنَّمَا تَحْصُلُ بِالْكَفِّ، وَنِهَايَةُ الْأَمْرِ فِيهَا إِنَّمَا تَحْصُلُ بِالْفَخِذِ.

ثُمَّ حكى الله تعالى عنهم أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِتِلْكَ الْأَعْضَاءِ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى خَلْقِكُمْ وَإِنْطَاقِكُمْ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى حَالَمَا كُنْتُمْ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ عَلَى خَلْقِكُمْ وَإِنْطَاقِكُمْ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ حَالُ القيامة والبعث كيف يُسْتَبْعَدُ مِنْهُ إِنْطَاقُ الْجَوَارِحِ وَالْأَعْضَاءِ؟

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَالْمَعْنَى إِثْبَاتُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَتِرُونَ عِنْدَ الْإِقْدَامِ عَلَى الْأَعْمَالِ الْقَبِيحَةِ، إِلَّا أَنَّ اسْتِتَارَهُمْ مَا كَانَ لِأَجْلِ خَوْفِهِمْ مِنْ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ الِاسْتِتَارَ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ الْأَعْمَالَ الَّتِي يُقْدِمُونَ عَلَيْهَا عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ وَالِاسْتِتَارِ.

عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنْتُ مُسْتَتِرًا

<<  <  ج: ص:  >  >>