الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلَهُ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ/ هُوَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هُمُ الْمُؤَذِّنُونَ، وَلَكِنَّ الْحَقَّ الْمَقْطُوعَ بِهِ أَنَّ كُلَّ مَنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ بِطَرِيقٍ مِنَ الطُّرُقِ فَهُوَ دَاخِلٌ فِيهِ، وَالدَّعْوَةُ إِلَى اللَّهِ مَرَاتِبُ:
فَالْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: دَعْوَةُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ رَاجِحَةٌ عَلَى دَعْوَةِ غَيْرِهِمْ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ الدَّعْوَةِ بِالْحُجَّةِ أَوَّلًا، ثُمَّ الدَّعْوَةِ بِالسَّيْفِ ثَانِيًا، وَقَلَّمَا اتَّفَقَ لِغَيْرِهِمُ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ هُمُ الْمُبْتَدِئُونَ بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ، وَأَمَّا الْعُلَمَاءُ فَإِنَّهُمْ يَبْنُونَ دَعْوَتَهُمْ عَلَى دَعْوَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالشَّارِعُ فِي إِحْدَاثِ الْأَمْرِ الشَّرِيفِ عَلَى طَرِيقِ الِابْتِدَاءِ أَفْضَلُ وَثَالِثُهَا: أَنَّ نُفُوسَهُمْ أَقْوَى قُوَّةً، وَأَرْوَاحَهُمْ أَصْفَى جَوْهَرًا، فَكَانَتْ تَأْثِيرَاتُهَا فِي إِحْيَاءِ الْقُلُوبِ الْمَيِّتَةِ وَإِشْرَاقِ الْأَرْوَاحِ الْكَدِرَةِ أَكْمَلَ، فَكَانَتْ دَعْوَتُهُمْ أَفْضَلَ وَرَابِعُهَا: أَنَّ النُّفُوسَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
نَاقِصَةٌ وَكَامِلَةٌ لَا تَقْوَى عَلَى تَكْمِيلِ النَّاقِصِينَ وَكَامِلَةٌ تَقْوَى عَلَى تَكْمِيلِ النَّاقِصِينَ فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الْعَوَامُّ وَالْقِسْمُ الثَّانِي: هُمُ الْأَوْلِيَاءُ وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: هُمُ الْأَنْبِيَاءُ، وَلِهَذَا السَّبَبِ
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عُلَمَاءُ أُمَّتِي كَأَنْبِيَاءِ بَنِي إسرائيل»
وإذا عرفت هذا فنقول: إن نفوس الأنبياء حصلت لها مزيتان: الْكَمَالُ فِي الذَّاتِ، وَالتَّكْمِيلُ لِلْغَيْرِ، فَكَانَتْ قُوَّتُهُمْ عَلَى الدَّعْوَةِ أَقْوَى، وَكَانَتْ دَرَجَاتُهُمْ أَفْضَلَ وَأَكْمَلَ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لَهُمْ صِفَتَانِ:
الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ، أَمَّا الْعُلَمَاءُ، فَهُمْ نُوَّابُ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْعِلْمِ، وَأَمَّا الْمُلُوكُ، فَهُمْ نُوَّابُ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْقُدْرَةِ، وَالْعِلْمُ يُوجِبُ الِاسْتِيلَاءَ عَلَى الْأَرْوَاحِ، وَالْقُدْرَةُ تُوجِبُ الِاسْتِيلَاءَ عَلَى الْأَجْسَادِ، فَالْعُلَمَاءُ خُلَفَاءُ الْأَنْبِيَاءِ فِي عَالَمِ الْأَرْوَاحِ، وَالْمُلُوكُ خُلَفَاءُ الْأَنْبِيَاءِ فِي عَالَمِ الْأَجْسَادِ. وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ أَكْمَلَ الدَّرَجَاتِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ دَرَجَةً الْعُلَمَاءُ، ثُمَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الْعُلَمَاءُ بِاللَّهِ، وَالْعُلَمَاءُ بِصِفَاتِ اللَّهِ، وَالْعُلَمَاءُ بِأَحْكَامِ اللَّهِ. أَمَّا الْعُلَمَاءُ بِاللَّهِ، فَهُمُ الْحُكَمَاءُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [الْبَقَرَةِ: ٢٢٩] وَأَمَّا الْعُلَمَاءُ بِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُمْ أَصْحَابُ الْأُصُولِ، وَأَمَّا الْعُلَمَاءُ بِأَحْكَامِ اللَّهِ فَهُمُ الْفُقَهَاءُ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا، فَلِهَذَا السَّبَبِ كَانَ لِلدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ دَرَجَاتٌ لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَأَمَّا الْمُلُوكُ فَهُمْ أَيْضًا يَدْعُونَ إِلَى دِينِ اللَّهِ بِالسَّيْفِ، وَذَلِكَ بِوَجْهَيْنِ إِمَّا بِتَحْصِيلِهِ عِنْدَ عَدَمِهِ مثل المحاربة مع الكفار، وإما بإبقائه عِنْدَ وُجُودِهِ وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِنَا الْمُرْتَدُّ يُقْتَلُ، وَأَمَّا الْمُؤَذِّنُونَ فَهُمْ يَدْخُلُونَ فِي هَذَا الْبَابِ دُخُولًا ضَعِيفًا، أَمَّا دُخُولُهُمْ فِيهِ فَلِأَنَّ ذِكْرَ كَلِمَاتِ الْأَذَانِ دَعْوَةٌ إِلَى الصَّلَاةِ، فَكَانَ ذَلِكَ دَاخِلًا تَحْتَ الدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ، وَأَمَّا كَوْنُ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ ضَعِيفَةً فَلِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْمُؤَذِّنِ أَنَّهُ لَا يُحِيطُ بِمَعَانِي تِلْكَ الْكَلِمَاتِ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مُحِيطًا بِهَا إِلَّا أَنَّهُ لَا يُرِيدُ بِذِكْرِهَا تِلْكَ الْمَعَانِيَ الشَّرِيفَةَ، فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ، فِي مَرَاتِبِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلَهُ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى اللَّهِ أَحْسَنُ مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهَا، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: كُلُّ مَا كَانَ أَحْسَنَ الْأَعْمَالِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا، لِأَنَّ كُلَّ مَا لَا يَكُونُ وَاجِبًا فَالْوَاجِبُ أَحْسَنُ منه، فثبت أن كل ما كان أحسن الأعمال فهو/ واجب، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ الدَّعْوَةُ إِلَى اللَّهِ أَحْسَنُ الْأَعْمَالِ بِمُقَتْضَى هَذِهِ الْآيَةِ، وَكُلُّ مَا كَانَ أَحْسَنَ الْأَعْمَالِ فَهُوَ وَاجِبٌ، ثُمَّ يَنْتُجُ أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى اللَّهِ وَاجِبَةٌ، ثُمَّ نَقُولُ الْأَذَانُ دَعْوَةٌ إِلَى اللَّهِ وَالدَّعْوَةُ إِلَيْهِ وَاجِبَةٌ فَيَنْتُجُ الْأَذَانُ وَاجِبٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ زَعَمُوا أَنَّ الْأَذَانَ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَزَعَمُوا أَنَّ الْأَذَانَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَالدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَيْهِ أَنَّ الدَّعْوَةَ الْمُرَادَةَ بِهَذِهِ الآية
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute