للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ [الِانْشِقَاقِ: ٢] بِمَعْنَى سَمِعَتْ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ أَعْلَمْنَاكَ وَهَذَا بِعِيدٌ، لِأَنَّ أَهْلَ الْقِيَامَةِ يَعْلَمُونَ اللَّهَ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ عِلْمًا وَاجِبًا، فَالْإِعْلَامُ فِي حَقِّهِ مُحَالٌ.

ثُمَّ قَالَ: مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنَّا يَشْهَدُ بِأَنَّ لَكَ شَرِيكًا، فَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَتَبَرَّءُونَ مِنْ إِثْبَاتِ الشَّرِيكِ لِلَّهِ تَعَالَى الثَّانِي: مَا مَنَّا مِنْ أَحَدٍ يُشَاهِدُهُمْ لِأَنَّهُمْ/ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَضَلَّتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ لَا يُبْصِرُونَهَا فِي سَاعَةِ التَّوْبِيخِ الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ كَلَامُ الْأَصْنَامِ فَإِنَّ اللَّهَ يُحْيِيهَا، ثُمَّ إِنَّهَا تَقُولُ مَا مَنَّا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ بِصِحَّةِ مَا أَضَافُوا إِلَيْنَا مِنَ الشَّرِكَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَمَعْنَى أَنَّهَا لَا تَنْفَعُهُمْ فَكَأَنَّهُمْ ضَلُّوا عَنْهُمْ.

ثُمَّ قَالَ: وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ وَهَذَا ابْتِدَاءُ كَلَامٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يَقُولُ إِنَّ الْكُفَّارَ ظَنُّوا أَوَّلًا ثُمَّ أَيْقَنُوا أَنَّهُ لَا مَحِيصَ لَهُمْ عَنِ النَّارِ وَالْعَذَابِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهُمْ ظَنُّوا أَوَّلًا أَنَّهُ لَا مَحِيصَ لَهُمْ عَنِ النَّارِ ثُمَّ أَيْقَنُوا ذَلِكَ بَعْدَهُ، وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ أَهْلَ النَّارِ يَعْلَمُونَ أَنَّ عِقَابَهُمْ دَائِمٌ، وَلَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ حَالِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُصِرِّينَ عَلَى الْقَوْلِ بِإِثْبَاتِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَضْدَادِ لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا تَبَرَّءُوا عَنْ تِلْكَ الشُّرَكَاءِ فِي الْآخِرَةِ بَيَّنَ أَنَّ الْإِنْسَانَ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ مُتَبَدِّلُ الْأَحْوَالِ مُتَغَيِّرُ الْمَنْهَجِ، فَإِنْ أَحَسَّ بِخَيْرٍ وَقُدْرَةٍ انْتَفَخَ وَتَعَظَّمَ وَإِنْ أَحَسَّ بِبَلَاءٍ وَمِحْنَةٍ ذَبُلَ، كَمَا قِيلَ فِي الْمَثَلِ: إِنَّ هَذَا كَالْقِرِلَّى، إِنْ رَأَى خَيْرًا تَدَلَّى، وَإِنْ رَأَى شَرًّا تَوَلَّى، فَقَالَ: لَا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ يعني أنه في حال الإقبال ومجيء المرادات لا ينتهي قط إلى درجة إلا ويطلب الزيادة عليها ويطمع بالفوز بها، وفي حال الإدبار والحرمان يصير آيسا قانطا، فالانتقال من ذلك الرجاء الذي لا آخر له إلى هذا اليأس الكلي يدل على كونه متبدل الصفة متغير الحال وفي قوله فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ مُبَالَغَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: مِنْ طَرِيقِ بِنَاءِ فَعُولٍ وَالثَّانِي: مِنْ طَرِيقِ التَّكْرِيرِ وَالْيَأْسِ مِنْ صِفَةِ الْقَلْبِ، وَالْقُنُوطُ أَنْ يَظْهَرَ آثَارٌ اليأس فِي الْوَجْهِ وَالْأَحْوَالِ الظَّاهِرَةِ.

ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الَّذِي صَارَ آيِسًا قَانِطًا لَوْ عَاوَدَتْهُ النِّعْمَةُ وَالدَّوْلَةُ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ فَإِنَّ هَذَا الرَّجُلَ يَأْتِي بِثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الْأَقَاوِيلِ الْفَاسِدَةِ وَالْمَذَاهِبِ الْبَاطِلَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْكُفْرِ وَالْبُعْدِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَوَّلَهَا أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَقُولَ هَذَا لِي وَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا حَقِّي وَصَلَ إِلَيَّ، لِأَنِّي اسْتَوْجَبْتُهُ بِمَا حَصَلَ عِنْدِي مِنْ أَنْوَاعِ الْفَضَائِلِ وَأَعْمَالِ الْبِرِّ وَالْقُرْبَةِ مِنَ اللَّهِ وَلَا يَعْلَمُ الْمِسْكِينُ أَنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى اللَّهِ شَيْئًا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ ذَلِكَ الشَّخْصُ عَارِيًا عَنِ الْفَضَائِلِ، فَهَذَا الْكَلَامُ ظَاهِرُ الْفَسَادِ وَإِنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِشَيْءٍ مِنَ الْفَضَائِلِ وَالصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ، فَهِيَ بِأَسْرِهَا إِنَّمَا حَصَلَتْ لَهُ بفضل الله وإحسانه، وإذا تَفَضَّلَ اللَّهُ بِشَيْءٍ عَلَى بَعْضِ عَبِيدِهِ، امْتَنَعَ أَنْ يَصِيرَ تَفَضُّلُهُ عَلَيْهِ بِتِلْكَ الْعَطِيَّةِ سَبَبًا لِأَنْ يَسْتَحِقَّ عَلَى اللَّهِ شَيْئًا آخَرَ، فَثَبَتَ بِهَذَا فَسَادُ قَوْلِهِ إِنَّمَا حَصَلَتْ هَذِهِ الْخَيْرَاتُ بِسَبَبِ اسْتِحْقَاقِي وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا لِي أَيْ لَا يَزُولُ عَنِّي وَيَبْقَى عَلَيَّ وَعَلَى أَوْلَادِي وَذُرِّيَّتِي.

وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مِنْ كَلِمَاتِهِمُ الْفَاسِدَةِ أَنْ يَقُولَ وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً يَعْنِي أَنَّهُ يَكُونُ شَدِيدَ الرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا عَظِيمَ النُّفْرَةِ عَنِ الْآخِرَةِ، فَإِذَا آلَ الْأَمْرُ إِلَى أَحْوَالِ الدُّنْيَا يَقُولُ إِنَّهَا لِي وَإِذَا آلَ الْأَمْرُ إِلَى الْآخِرَةِ يَقُولُ وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً.

وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنْ كَلِمَاتِهِمُ الْفَاسِدَةِ أَنْ يَقُولَ وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى / يَعْنِي أَنَّ

<<  <  ج: ص:  >  >>