للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الشُّبُهَاتُ عَنْ قُلُوبِهِمْ وَيَحْصُلَ فِيهَا الْجَزْمُ وَالْقَطْعُ بِوُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الْحَكِيمِ الْعَلِيمِ الْمُنَزَّهِ عَنِ الْمِثْلِ وَالضِّدِّ، فَإِنْ قِيلَ هَذَا الْوَجْهُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: سَنُرِيهِمْ يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى مَا أَطْلَعَهُمْ عَلَى تِلْكَ الْآيَاتِ إِلَى الْآنِ وَسَيُطْلِعُهُمْ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَالْآيَاتُ الْمَوْجُودَةُ فِي الْعَالَمِ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ قَدْ كَانَ اللَّهُ أَطْلَعَهُمْ عَلَيْهَا قَبْلَ ذَلِكَ فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَذَّرَ حَمْلُ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، قُلْنَا إِنَّ الْقَوْمَ وَإِنْ كَانُوا قَدْ رَأَوْا هَذِهِ الْأَشْيَاءَ إِلَّا أَنَّ الْعَجَائِبَ الَّتِي أَوْدَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِمَّا لَا نِهَايَةَ لَهَا، فَهُوَ تَعَالَى يُطْلِعُهُمْ عَلَى تِلْكَ الْعَجَائِبِ زَمَانًا فَزَمَانًا، وَمِثَالُهُ كُلُّ أَحَدٍ رَأَى بِعَيْنِهِ بِنْيَةَ الْإِنْسَانِ وَشَاهَدَهَا، إِلَّا أَنَّ الْعَجَائِبَ الَّتِي أَبْدَعَهَا اللَّهُ فِي تَرْكِيبِ هَذَا الْبَدَنِ كَثِيرَةٌ وَأَكْثَرُ النَّاسِ لَا يَعْرِفُونَهَا، وَالَّذِي وَقَفَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا فَكُلَّمَا ازْدَادَ وُقُوفًا عَلَى تِلْكَ الْعَجَائِبِ وَالْغَرَائِبِ فَصَحَّ بِهَذَا الطَّرِيقِ قَوْلُهُ سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِآيَاتِ الْآفَاقِ فَتْحُ الْبِلَادِ الْمُحِيطَةِ بِمَكَّةَ وَبِآيَاتِ أَنْفُسِهِمْ فَتْحُ مَكَّةَ وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ رَجَّحُوهُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لِأَجْلِ أَنْ قَوْلَهُ سَنُرِيهِمْ يَلِيقُ بِهَذَا الْوَجْهِ وَلَا يَلِيقُ بِالْأَوَّلِ إِلَّا أَنَّا أَجَبْنَا عَنْهُ بِأَنَّ قَوْلَهُ سَنُرِيهِمْ لَائِقٌ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ، فَإِنْ قِيلَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بَعِيدٌ لِأَنَّ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَوْلَى عَلَى بَعْضِ الْبِلَادِ الْمُحِيطَةِ بِمَكَّةَ، ثُمَّ اسْتَوْلَى عَلَى مَكَّةَ، إِلَّا أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ عَلَى بَعْضِ الْبِلَادِ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْمُسْتَوْلِي مُحِقًّا، فَإِنَّا نَرَى أَنَّ الْكُفَّارَ قَدْ يَحْصُلُ لَهُمُ اسْتِيلَاءٌ عَلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَعَلَى مُلُوكِهِمْ، وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِمْ مُحِقِّينَ، وَلِهَذَا السَّبَبِ قُلْنَا إِنَّ حَمْلَ الْآيَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَوْلَى، ثُمَّ نَقُولُ إِنْ أَرَدْنَا تَصْحِيحَ هَذَا الْوَجْهِ، قُلْنَا إِنَّا لَا نَسْتَدِلُّ بِمُجَرَّدِ اسْتِيلَاءِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تِلْكَ الْبِلَادِ عَلَى كَوْنِهِ مُحِقًّا فِي ادِّعَاءِ النُّبُوَّةِ، بَلْ نَسْتَدِلُّ بِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ عَنْ مَكَّةَ أَنَّهُ يَسْتَوْلِي عَلَيْهَا وَيَقْهَرُ

أَهْلَهَا وَيَصِيرُ أَصْحَابُهُ قَاهِرِينَ لِلْأَعْدَاءِ، فَهَذَا إِخْبَارٌ عَنِ الْغَيْبِ وَقَدْ وَقَعَ مُخْبَرُهُ مُطَابِقًا لِخَبَرِهِ، فَيَكُونُ هَذَا إِخْبَارًا صِدْقًا عَنِ الْغَيْبِ، وَالْإِخْبَارُ عَنِ الْغَيْبِ مُعْجِزَةٌ، فَبِهَذَا الطَّرِيقِ يُسْتَدَلُّ بِحُصُولِ هَذَا الِاسْتِيلَاءِ عَلَى كَوْنِ هَذَا الدِّينِ حَقًّا.

ثُمَّ قَالَ: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ وَقَوْلُهُ بِرَبِّكَ فِي مَوْضِعِ الرفع على أنه/ فاعل يَكْفِ وأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ بَدَلٌ مِنْهُ، وَتَقْدِيرُهُ: أو لم يَكْفِهِمْ أَنَّ رَبَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ تَعَالَى شَهِيدًا عَلَى الْأَشْيَاءِ أَنَّهُ خَلَقَ الدَّلَائِلَ عَلَيْهَا، وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلُهُ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ [الْأَنْعَامِ: ١٩] وَالْمَعْنَى أَلَمْ تَكْفِهِمْ هَذِهِ الدَّلَائِلُ الْكَثِيرَةُ الَّتِي أُوْضَحَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَرَّرَهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي كُلِّ سُوَرِ الْقُرْآنِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ وَالْعَدْلِ وَالنُّبُوَّةِ.

ثُمَّ خَتَمَ السُّورَةَ بِقَوْلِهِ أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَيْ إِنَّ الْقَوْمَ فِي شَكٍّ عَظِيمِ وَشُبْهَةٍ شَدِيدَةٍ مِنَ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، وَقُرِئَ فِي مُرْيَةٍ بِالضَّمِّ.

ثُمَّ قَالَ: أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ أَيْ عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا فَيَعْلَمُ بَوَاطِنَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ وَظَوَاهِرَهُمْ، وَيُجَازِي كُلَّ أَحَدٍ عَلَى فِعْلِهِ بِحَسَبِ مَا يَلِيقُ بِهِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ عُلُومُهُ مُتَنَاهِيَةً، قُلْنَا قَوْلُهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ عِلْمُهُ مُحِيطًا بِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ فَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُتَنَاهِيًا، لَا كَوْنَ مَجْمُوعِهَا مُتَنَاهِيًا، والله أعلم بالصواب.

تمّ تفسير هذه السورة وقت ظهر الرابع مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّمِائَةٍ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَاتُهُ عَلَى خَاتَمِ النَّبِيِّينَ محمد وآله وصحبه وسلّم.

<<  <  ج: ص:  >  >>