للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَكُونَ مُنَزَّهًا عَنِ الْكَوْنِ فِي الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ وَالْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ.

وَالصِّفَةُ الرَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِكَوْنِهِ عَلِيًّا الْعُلُوَّ فِي الْجِهَةِ وَالْمَكَانِ لِمَا ثَبَتَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى فَسَادِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْعَظِيمِ الْعَظَمَةَ بِالْجُثَّةِ وَكِبَرِ الْجِسْمِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَهُ مُؤَلَّفًا مِنَ الْأَجْزَاءِ وَالْأَبْعَاضِ، وَذَلِكَ ضِدُّ قَوْلِهِ اللَّهِ أَحَدٌ [الإخلاص: ١] فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْعَلِيِّ الْمُتَعَالِي عَنْ مُشَابَهَةِ الْمُمْكِنَاتِ وَمُنَاسَبَةِ الْمُحْدَثَاتِ، وَمِنَ الْعَظِيمِ الْعَظَمَةُ بِالْقُدْرَةِ وَالْقَهْرُ بِالِاسْتِعْلَاءِ وَكَمَالُ الْإِلَهِيَّةِ.

ثُمَّ قَالَ: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ في رواية أبي بكر تَكادُ بالتاء يَتَفَطَّرْنَ بِالْيَاءِ وَالنُّونِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَحَمْزَةُ تَكادُ بِالتَّاءِ يَتَفَطَّرْنَ بِالْيَاءِ وَالتَّاءِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ:

يَكَادُ بِالْيَاءِ تتفطرن أَيْضًا بِالتَّاءِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَرَوَى يُونُسُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو قِرَاءَةً غَرِيبَةً تَتَفَطَّرْنَ بِالتَّاءَيْنِ مَعَ النُّونِ، وَنَظِيرُهَا حَرْفٌ نَادِرٌ، رُوِيَ فِي نَوَادِرِ ابْنِ الْإِعْرَابِيِّ: الْإِبِلُ تَتَشَمَّسْنَ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: في فائدة قوله مِنْ فَوْقِهِنَّ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ قَالَ وَالْمَعْنَى أَنَّهَا تَكَادُ تَتَفَطَّرُ مِنْ ثِقَلِ اللَّهِ عَلَيْهَا.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ سَخِيفٌ، وَيَجِبُ الْقَطْعُ بِبَرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ، وَيَدُلُّ عَلَى فَسَادِهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ مِنْ فَوْقِهِنَّ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ مِمَّنْ فَوْقَهُنَّ وَثَانِيهَا: هَبْ أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى ذَلِكَ، لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ إِنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ إِنَّمَا حَصَلَتْ مِنْ ثِقَلِ اللَّهِ عَلَيْهَا، وَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ إِنَّمَا حَصَلَتْ مِنْ ثِقَلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهَا، كَمَا

جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحَقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ مَا فِيهَا مَوْضِعُ شِبْرٍ إِلَّا وَفِيهِ مَلَكٌ قَائِمٌ أَوْ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ»

وَثَالِثُهَا: لِمَ لا يجوز أن يكون المراد/ تكاد السموات تَنْشَقُّ وَتَنْفَطِرُ مِنْ هَيْبَةِ مَنْ هُوَ فَوْقَهَا فَوْقِيَّةً بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْقَهْرِ وَالْقُدْرَةِ؟، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ الْقَوْلَ الَّذِي ذَكَرُوهُ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ وَالرَّكَاكَةِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَهُوَ أَنَّ كَلِمَةَ الْكُفْرِ إنما جاءت من الذين تحت السموات، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يُقَالَ: يَتَفَطَّرْنَ مِنْ تَحْتِهِنَّ مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي جَاءَتْ مِنْهَا الْكَلِمَةُ، وَلَكِنَّهُ بُولِغَ فِي ذَلِكَ فَقُلِبَ فَجُعِلَتْ مُؤَثِّرَةً فِي جِهَةِ الْفَوْقِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: يَكَدْنَ يَتَفَطَّرْنَ مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي فَوْقَهُنَّ، وَدَعِ الْجِهَةَ الَّتِي تَحْتَهُنَّ، وَنَظِيرُهُ فِي الْمُبَالَغَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى، يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ [الْحَجِّ: ١٩، ٢٠] فَجُعِلَ مُؤَثِّرًا فِي أَجْزَائِهِ الْبَاطِنَةِ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ أَنْ يُقَالَ مِنْ فَوْقِهِنَّ أَيْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِينَ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ثُمَّ قَالَ: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ أَيْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِينَ وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي التَّأْوِيلِ أَنْ يُقَالَ مَعْنَى مِنْ فَوْقِهِنَّ أَيْ مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي حصلت هذه السموات فِيهَا، وَتِلْكَ الْجِهَةُ هِيَ فَوْقَ، فَقَوْلُهُ مِنْ فَوْقِهِنَّ أَيْ مِنَ الْجِهَةِ الْفَوْقَانِيَّةِ الَّتِي هُنَّ فِيهَا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذِهِ الْهَيْئَةَ لِمَ حَصَلَتْ؟ وَفِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْمُوحِيَ لِهَذَا الْكِتَابِ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، بَيَّنَ وَصْفَ جَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ، فَقَالَ: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ أَيْ مِنْ هَيْبَتِهِ وَجَلَالَتِهِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ السبب فيه إِثْبَاتِهِمُ الْوَلَدَ لِلَّهِ لِقَوْلِهِ تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>