للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نَسِيئَةٌ وَالدُّنْيَا نَقْدٌ وَالنَّسِيئَةُ مَرْجُوحَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّقْدِ، لِأَنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ النَّقْدُ خَيْرٌ مِنَ النَّسِيئَةِ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ انْعَكَسَتْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَحْوَالِ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا، فَالْآخِرَةُ وَإِنْ كانت نقدا إِلَّا أَنَّهَا مُتَوَجِّهَةٌ لِلزِّيَادَةِ وَالدَّوَامِ فَكَانَتْ أَفْضَلَ وَأَكْمَلَ، وَالدُّنْيَا وَإِنْ كَانَتْ نَقْدًا إِلَّا أَنَّهَا مُتَوَجِّهَةٌ إِلَى النُّقْصَانِ ثُمَّ إِلَى الْبُطْلَانِ فَكَانَتْ أَخَسَّ وَأَرْذَلَ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَالَ الْآخِرَةِ لَا يُنَاسِبُ حَالَ الدُّنْيَا الْبَتَّةَ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَحْوَالِ الْآخِرَةِ إِلَّا مُجَرَّدُ الِاسْمِ كَمَا هُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ السَّادِسُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ مَنَافِعَ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا لَيْسَتْ حَاضِرَةً بَلْ لَا بُدَّ فِي الْبَابَيْنِ مِنَ الْحَرْثِ، وَالْحَرْثُ لَا يَتَأَتَّى إِلَّا بِتَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ فِي الْبَذْرِ ثُمَّ التَّسْقِيَةِ وَالتَّنْمِيَةِ وَالْحَصْدِ ثُمَّ التَّنْقِيَةِ، فَلَمَّا سَمَّى اللَّهُ كِلَا الْقِسْمَيْنِ حَرْثًا عَلِمْنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِتَحَمُّلِ الْمَتَاعِبِ وَالْمَشَاقِّ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ مَصِيرَ الْآخِرَةِ إِلَى الزِّيَادَةِ وَالْكَمَالِ وَأَنَّ مَصِيرَ الدُّنْيَا إِلَى النُّقْصَانِ ثُمَّ الْفَنَاءِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ إِذَا كَانَ لَا بُدَّ فِي الْقِسْمَيْنِ جَمِيعًا مِنْ تَحَمُّلِ مَتَاعِبِ الحراثة والتسمية وَالتَّنْمِيَةِ وَالْحَصْدِ وَالتَّنْقِيَةِ، فَلِأَنْ تُصْرَفَ هَذِهِ الْمَتَاعِبُ إِلَى مَا يَكُونُ فِي التَّزَايُدِ وَالْبَقَاءِ أَوْلَى مِنْ صَرْفِهَا إِلَى مَا يَكُونُ فِي النُّقْصَانِ وَالِانْقِضَاءِ وَالْفَنَاءِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: الْمَعْنَى أَنَّا نَزِيدُ فِي تَوْفِيقِهِ وَإِعَانَتِهِ وَتَسْهِيلِ سُبُلِ الْخَيْرَاتِ وَالطَّاعَاتِ عَلَيْهِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ بِتَضْعِيفِ الثَّوَابِ، قَالَ تَعَالَى: لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [فَاطِرٍ: ٣٠]

وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَصْبَحَ وَهَمُّهُ الدُّنْيَا شَتَّتَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ هَمَّهُ وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَى مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ أَصْبَحَ هَمُّهُ الْآخِرَةَ جَمَعَ اللَّهُ هَمَّهُ وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ عن أنفها»

أو لفظا يَقْرُبُ مِنْ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَعْنَاهُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ظَاهِرُ اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ صَلَّى لِأَجْلِ طَلَبِ الثَّوَابِ أَوْ لِأَجْلِ دَفْعِ الْعِقَابِ فَإِنَّهُ تَصِحُّ صَلَاتُهُ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا لَا تَصِحُّ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ/ الْآخِرَةِ وَالْحَرْثُ لَا يَتَأَتَّى إِلَّا بِإِلْقَاءِ الْبَذْرِ الصَّحِيحِ فِي الْأَرْضِ، وَالْبَذْرُ الصَّحِيحُ لِجَمِيعِ الْخَيْرَاتِ وَالسَّعَادَاتِ لَيْسَ إِلَّا عُبُودِيَّةَ اللَّهِ تَعَالَى.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ أَصْحَابُنَا إِذَا تَوَضَّأَ بِغَيْرِ نِيَّةٍ لَمْ يَصِحَّ، قَالُوا لِأَنَّ هَذَا الْإِنْسَانَ مَا أَرَادَ حَرْثَ الْآخِرَةِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إِذَا كَانَ غَافِلًا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الْآخِرَةِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ لَهُ نُصِيبٌ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْآخِرَةِ وَالْخُرُوجُ عَنْ عُهْدَةِ الصَّلَاةِ مِنْ بَابِ مَنَافِعِ الْآخِرَةِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ فِي الْوُضُوءِ الْعَارِي عَنِ النِّيَّةِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ الْقَانُونَ الْأَعْظَمَ وَالْقِسْطَاسَ الْأَقْوَمَ فِي أَعْمَالِ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا أَرْدَفَهُ بِالتَّنْبِيهِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي بَابِ الضَّلَالَةِ وَالشَّقَاوَةِ فَقَالَ: أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَمَعْنَى الْهَمْزَةِ فِي أَمْ التقرير والتقريع وشركاؤهم شَيَاطِينُهُمُ الَّذِينَ زَيَّنُوا الشِّرْكَ وَإِنْكَارَ الْبَعْثِ وَالْعَمَلَ للدنيا لأنهم يَعْلَمُونَ غَيْرَهَا، وَقِيلَ شُرَكَاؤُهُمْ أَوْثَانُهُمْ، وَإِنَّمَا أُضِيفَتْ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوهَا شُرَكَاءَ لِلَّهِ، وَلَمَّا كَانَ سَبَبًا لِضَلَالَتِهِمْ جُعِلَتْ شَارِعَةً لِدِينِ الضلالة كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ [إِبْرَاهِيمَ: ٣٦] وَقَوْلُهُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ يَعْنِي أَنَّ تِلْكَ الشَّرَائِعَ بِأَسْرِهَا عَلَى ضِدَّيْنِ لِلَّهِ، ثُمَّ قَالَ: وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ أَيِ الْقَضَاءُ السَّابِقُ بِتَأْخِيرِ الْجَزَاءِ، أَوْ يُقَالُ وَلَوْلَا الْوَعْدُ بِأَنَّ الْفَصْلَ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أَيْ بَيْنَ الْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ أَوْ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَشُرَكَائِهِمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ، وَأَنَّ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ فِي إِنَّ عَطْفًا لَهُ عَلَى كَلِمَةُ الْفَصْلِ يَعْنِي وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ وَأَنَّ

<<  <  ج: ص:  >  >>