للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ

[النِّسَاءِ: ٧٨] يُرِيدُ مَا يَسُوءُهُمْ مِنَ الْمَصَائِبِ وَالْبَلَايَا، وَأَجَابَ غَيْرُهُ بِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ أَحَدَهُمَا فِي مُقَابَلَةِ الْآخَرِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ أُطْلِقَ اسْمُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، والحق ما ذكره صاحب «الكشاف» .

المسألة الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي عِلْمِ الْفِقْهِ فَإِنَّ مُقْتَضَاهَا أَنْ تُقَابَلَ كُلُّ جِنَايَةٍ بِمِثْلِهَا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِهْدَارَ يُوجِبُ فَتْحَ بَابِ الشَّرِّ وَالْعُدْوَانِ، لِأَنَّ فِي طَبْعِ كُلِّ أَحَدٍ الظُّلْمَ وَالْبَغْيَ وَالْعُدْوَانَ، فَإِذَا لَمْ يُزْجَرْ عَنْهُ أَقْدَمَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَتْرُكْهُ، وَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى قَدْرِ الذَّنْبِ فَهُوَ ظُلْمٌ وَالشَّرْعُ مُنَزَّهٌ عَنْهُ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يُقَابَلَ بِالْمِثْلِ، ثُمَّ تَأَكَّدَ هَذَا النَّصُّ بِنُصُوصٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [النَّحْلِ: ١٢٦] وَقَوْلِهِ تَعَالَى:

مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها [غَافِرٍ: ٤٠] وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ/ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى [الْبَقَرَةِ: ١٧٨] وَالْقِصَاصُ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُسَاوَاةِ وَالْمُمَاثَلَةِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ [الْمَائِدَةِ: ٤٥] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [الْبَقَرَةِ: ١٧٩] فَهَذِهِ النُّصُوصُ بِأَسْرِهَا تَقْتَضِي مُقَابَلَةَ الشيء بمثله. ثم هاهنا دَقِيقَةٌ: وَهِيَ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُمْكِنِ اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ إِلَّا بِاسْتِيفَاءِ الزِّيَادَةِ فَهَهُنَا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ إِلْحَاقِ زِيَادَةِ الضَّرَرِ بِالْجَانِي وَبَيْنَ مَنْعِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مِنِ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ، فَأَيُّهُمَا أَوْلَى؟ فَهَهُنَا مَحَلُّ اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الصُّوَرِ، وَتَفَرَّعَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ بَعْضُ الْمَسَائِلِ تَنْبِيهًا عَلَى الْبَاقِي.

الْمِثَالُ الْأَوَّلُ: احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُقْتَلُ بِالذِّمِّيِّ وَأَنَّ الْحُرَّ لَا يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ، بِأَنْ قَالَ الْمُمَاثَلَةُ شَرْطٌ لِجَرَيَانِ الْقِصَاصِ وَهِيَ مَفْقُودَةٌ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجْرِيَ الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا، أَمَّا بَيَانُ أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ شَرْطٌ لِجَرَيَانِ الْقِصَاصِ فَهِيَ النُّصُوصُ الْمَذْكُورَةُ، وَكَيْفِيَّةُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا أَنْ نَقُولَ إِمَّا أَنْ نَحْمِلَ الْمُمَاثَلَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذِهِ النُّصُوصِ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ فِي كُلِّ الْأُمُورِ إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ أَوْ نَحْمِلَهَا عَلَى الْمُمَاثَلَةِ فِي أَمْرٍ مُعَيَّنٍ، وَالثَّانِي مَرْجُوحٌ لِأَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ الْمُعَيَّنَ غَيْرُ مذكور الْآيَةِ، فَلَوْ حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَيْهَا لَزِمَ الْإِجْمَالُ، وَلَوْ حَمَلْنَا النَّصَّ عَلَى الْقِسْمِ الْأَوَّلِ لَزِمَ تَحَمُّلُ التَّخْصِيصِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ دَفْعَ الْإِجْمَالِ أَوْلَى مِنْ دَفْعِ التَّخْصِيصِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي رِعَايَةَ الْمُمَاثَلَةِ فِي كُلِّ الْأُمُورِ إِلَّا مَا خَصَّهُ دَلِيلُ الْعَقْلِ وَدَلِيلٌ نَقْلِيٌّ مُنْفَصِلٌ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ رِعَايَةُ الْمُمَاثَلَةِ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ، وَفِي قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ لَا تُمْكِنُ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ اعْتَبَرَهُ الشَّرْعُ فِي إِيجَابِ الْقَتْلِ، لِتَحْصِيلِهِ عِنْدَ عَدَمِهِ كَمَا فِي حَقِّ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ، وَلِإِبْقَائِهِ عِنْدَ وُجُودِهِ كَمَا فِي حَقِّ الْمُرْتَدِّ وَأَيْضًا الْحُرِّيَّةُ صِفَةٌ اعْتَبَرَهَا الشَّرْعُ فِي حَقِّ الْقَضَاءِ وَالْإِمَامَةِ وَالشَّهَادَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ المماثلة شرط لجريان القصاص وهي مفقودة هاهنا فَوَجَبَ الْمَنْعُ مِنَ الْقِصَاصِ.

الْمِثَالُ الثَّانِي: احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي أَنَّ الْأَيْدِيَ تُقْطَعُ بِالْيَدِ الْوَاحِدَةِ، فَقَالَ لَا شَكَّ أَنَّهُ إِذَا صَدَرَ كُلُّ الْقَطْعِ أَوْ بَعْضُهُ عَنْ كُلِّ أُولَئِكَ الْقَاطِعِينَ أَوْ عَنْ بَعْضِهِمْ فَوَجَبَ أَنْ يُشْرَعَ فِي حَقِّ أُولَئِكَ الْقَاطِعِينَ مِثْلَهُ لِهَذِهِ النُّصُوصِ وَكُلُّ مَنْ قَالَ يُشْرَعُ الْقَطْعُ إِمَّا كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ فِي حَقِّ كُلِّهِمْ أَوْ بَعْضِهِمْ قَالَ بِإِيجَابِهِ عَلَى الْكُلِّ، بَقِيَ أَنْ يُقَالَ فَيَلْزَمُ مِنْهُ اسْتِيفَاءُ الزِّيَادَةِ مِنَ الْجَانِي وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ لَمَّا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ جَانِبِ الْجَانِي وَبَيْنَ جَانِبِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ كَانَ جَانِبُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِالرِّعَايَةِ أَوْلَى.

الْمِثَالُ الثَّالِثُ: شَرِيكُ الْأَبِ شُرِعَ فِي حَقِّهِ الْقِصَاصُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ صَدَرَ عَنْهُ الْجَرْحُ فَوَجَبَ أَنْ يُقَابَلَ بِمِثْلِهِ لِقَوْلِهِ تعالى: وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ [المائدة: ٤٥] وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ثَبَتَ تَمَامُ الْقِصَاصِ لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ.

الْمِثَالُ الرَّابِعُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مَنْ حَرَّقَ حَرَّقْنَاهُ وَمَنْ غَرَّقَ غَرَّقْنَاهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ هَذِهِ النُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى مُقَابَلَةِ كُلِّ شَيْءٍ بِمُمَاثِلِهِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>