[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى نَوْعًا آخَرَ مِنْ كُفْرِهِمْ وَشُبُهَاتِهِمْ، وَهُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْمُجْبِرَةِ فِي أَنَّ كُفْرَ الْكَافِرِ يَقَعُ بِإِرَادَةِ اللَّهِ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ وَهَذَا صَرِيحُ قَوْلِ الْمُجْبِرَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَبْطَلَهُ بِقَوْلِهِ مَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ فَثَبَتَ أَنَّهُ حَكَى مَذْهَبَ الْمُجْبِرَةِ، ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِالْإِبْطَالِ وَالْإِفْسَادِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْمَذْهَبَ بَاطِلٌ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا إِلَى قَوْلِهِ قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ
، [الْأَنْعَامِ: ١٤٨] وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ أَنْوَاعَ كُفْرِهِمْ فَأَوَّلُهَا:
قَوْلُهُ وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً [الزخرف: ١٥] ، وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزخرف: ١٩] ، وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ فَلَمَّا حَكَى هَذِهِ الْأَقَاوِيلَ الثَّلَاثَةَ بَعْضَهَا عَلَى إِثْرِ بَعْضٍ، وَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ كُفْرٌ مَحْضٌ فَكَذَلِكَ هَذَا الْقَوْلُ الثَّالِثُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا، وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَاحِدِيَّ أَجَابَ فِي «الْبَسِيطِ» عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ: وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:
مَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ عَائِدٌ إِلَى قَوْلِهِمُ الْمَلَائِكَةُ إِنَاثٌ وَإِلَى قَوْلِهِمُ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِقَوْلِهِمْ لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ أَنَّهُ أَمَرَنَا بِذَلِكَ، وَأَنَّهُ رَضِيَ بِذَلِكَ، وَأَقَرَّنَا عَلَيْهِ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَهَذَا مَا ذَكَرَهُ الْوَاحِدِيُّ فِي الْجَوَابِ، وَعِنْدِي هَذَانِ الْوَجْهَانِ ضَعِيفَانِ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الْقَوْمِ قَوْلَيْنِ بَاطِلَيْنِ، وَبَيَّنَ وَجْهَ بُطْلَانِهِمَا، ثُمَّ حَكَى بَعْدَهُ مَذْهَبًا ثَالِثًا فِي مَسْأَلَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ عَنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، ثُمَّ حَكَمَ بِالْبُطْلَانِ وَالْوَعِيدِ فَصَرَفَ هَذَا الْإِبْطَالَ عَنْ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ عَقِيبَهُ إِلَى كَلَامٍ مُتَقَدِّمٍ أَجْنَبِيٍّ عَنْهُ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: فَهُوَ أَيْضًا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ لَيْسَ فِيهِ بَيَانٌ مُتَعَلِّقٌ بِتِلْكَ الْمَشِيئَةِ، وَالْإِجْمَالُ خِلَافُ الدَّلِيلِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ لَوْ شَاءَ اللَّهُ أَلَّا نَعْبُدَهُمْ مَا عَبَدْنَاهُمْ، وَكَلِمَةُ لَوْ تُفِيدُ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ لِانْتِفَاءِ غَيْرِهِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ مَشِيئَةُ اللَّهِ لِعَدَمِ عِبَادَتِهِمْ، وَهَذَا عَيْنُ مَذْهَبِ الْمُجْبِرَةِ، فَالْإِبْطَالُ وَالْإِفْسَادُ يَرْجِعُ إِلَى هَذَا/ الْمَعْنَى، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ أَجَابَ عَنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ بِأَنْ قَالَ إِنَّهُمْ إِنَّمَا ذَكَرُوا ذَلِكَ الْكَلَامَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ وَالسُّخْرِيَةِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ اسْتَوْجَبُوا الطَّعْنَ وَالذَّمَّ، وَأَجَابَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ قَالُوا مُسْتَهْزِئِينَ، وَادِّعَاءُ مَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ بَاطِلٌ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ وَهِيَ: أَنَّهُمْ جعلوا له من عباده جزءا وَأَنَّهُمْ جَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا، وَأَنَّهُمْ قَالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ فَلَوْ قُلْنَا بِأَنَّهُ إِنَّمَا جَاءَ الذَّمُّ عَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ لِأَنَّهُمْ ذَكَرُوهُ عَلَى طَرِيقِ الْجِدِّ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحَالُ فِي حِكَايَةِ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ كَذَلِكَ، فَلَزِمَ أَنَّهُمْ لَوْ نَطَقُوا بِتِلْكَ الْأَشْيَاءِ عَلَى سَبِيلِ الْجِدِّ أَنْ يَكُونُوا مُحِقِّينَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ كُفْرٌ، وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ الطَّعْنَ فِي الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ إِنَّمَا تَوَجَّهَ عَلَى نَفْسِ ذَلِكَ الْقَوْلِ، وَفِي الْقَوْلِ الثَّالِثِ لَا عَلَى نَفْسِهِ بَلْ عَلَى إِيرَادِهِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ، فَهَذَا يُوجِبُ تَشْوِيشَ النَّظْمِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي كَلَامِ اللَّهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute