للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْأَكْثَرُونَ: الْمُرَادُ بُعْدُ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَمِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ تَسْمِيَةُ الشَّيْئَيْنِ الْمُتَقَابِلَيْنِ بِاسْمِ أَحَدِهِمَا، قَالَ الْفَرَزْدَقُ:

لَنَا قَمَرَاهَا وَالنُّجُومُ الطَّوَالِعُ

يُرِيدُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، وَيَقُولُونَ لِلْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ: الْبَصْرَتَانِ، وَلِلْغَدَاةِ وَالْعَصْرِ: الْعَصْرَانِ، وَلِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: الْعُمَرَانُ، وَلِلْمَاءِ وَالتَّمْرِ: الْأَسْوَدَانِ الثَّانِي: أَنَّ أَهْلَ النُّجُومِ يَقُولُونَ: الْحَرَكَةُ الَّتِي تَكُونُ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، هِيَ حَرَكَةُ الْفَلَكِ الْأَعْظَمِ، وَالْحَرَكَةُ الَّتِي مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ، هِيَ حَرَكَةُ الْكَوَاكِبِ الثَّابِتَةِ، وَحَرَكَةُ الْأَفْلَاكِ الْمُمَثَّلَةِ الَّتِي لِلسَّيَّارَاتِ سِوَى الْقَمَرِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَشْرِقٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ، فَثَبَتَ أَنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ الْمَشْرِقِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْجِهَتَيْنِ حَقِيقَةٌ الثَّالِثُ: قَالُوا يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى مَشْرِقِ الصَّيْفِ وَمَشْرِقِ الشِّتَاءِ وَبَيْنَهُمَا بُعْدٌ عَظِيمٌ، وَهَذَا بَعِيدٌ عِنْدِي، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ قَوْلِهِ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ الْمُبَالَغَةُ فِي حُصُولِ الْبُعْدِ، وَهَذِهِ الْمُبَالَغَةُ إِنَّمَا تَحْصُلُ عَنْ ذِكْرِ بُعْدٍ لَا يُمْكِنُ وُجُودُ بُعْدٍ آخَرَ أَزْيَدَ مِنْهُ، وَالْبُعْدُ بَيْنَ مَشْرِقِ الصَّيْفِ وَمَشْرِقِ الشِّتَاءِ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَيَبْعُدُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنَّ الْحِسَّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَرَكَةَ الْيَوْمِيَّةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَأَمَّا الْقَمَرُ فَإِنَّهُ يَظْهَرُ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ فِي جَانِبِ الْمَغْرِبِ، ثُمَّ لَا يَزَالُ يَتَقَدَّمُ إِلَى جَانِبِ الْمَشْرِقِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَشْرِقَ حَرَكَةِ الْقَمَرِ هُوَ الْمَغْرِبُ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالْجَانِبُ الْمُسَمَّى بِالْمَشْرِقِ هُوَ مَشْرِقُ الشَّمْسِ، وَلَكِنَّهُ مَغْرِبُ الْقَمَرِ، وَأَمَّا الْجَانِبُ الْمُسَمَّى بِالْمَغْرِبِ، فَإِنَّهُ مَشْرِقُ الْقَمَرِ وَلَكِنَّهُ مَغْرِبُ الشَّمْسِ، وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ يَصِحُّ تَسْمِيَةُ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ بِالْمَشْرِقَيْنِ، وَلَعَلَّ هَذَا الْوَجْهَ أَقْرَبُ إِلَى مُطَابَقَةِ اللَّفْظِ وَرِعَايَةِ الْمَقْصُودِ مِنْ سَائِرِ الْوُجُوهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَبِئْسَ الْقَرِينُ أَيِ الكافر يقول لذلك الشيطان يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ أَنْتَ، فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِتَفْسِيرِ الْأَلْفَاظِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تَحْقِيرُ الدُّنْيَا وَبَيَانُ مَا فِي الْمَالِ وَالْجَاهِ مِنَ الْمَضَارِّ الْعَظِيمَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كَثْرَةَ الْمَالِ وَالْجَاهَ تَجْعَلُ الْإِنْسَانَ كَالْأَعْشَى عَنْ مُطَالَعَةِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَنْ صَارَ كَذَلِكَ صَارَ جَلِيسًا لِلشَّيْطَانِ وَمَنْ صَارَ كَذَلِكَ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِ الْهُدَى وَالْحَقِّ وَبَقِيَ جَلِيسَ الشَّيْطَانِ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْقِيَامَةِ، وَمُجَالَسَةُ الشَّيْطَانِ حَالَةٌ تُوجِبُ الضَّرَرَ الشَّدِيدَ فِي الْقِيَامَةِ بحيث يقول الكافر يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ أَنْتَ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كَثْرَةَ الْمَالِ وَالْجَاهَ تُوجِبُ كَمَالَ النُّقْصَانِ وَالْحِرْمَانِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَإِذَا ظَهَرَ هَذَا فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: ٣١] ، قَالُوا كَلَامًا/ فَاسِدًا وَشُبْهَةً بَاطِلَةً.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ فَقَوْلُهُ أَنَّكُمْ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ يَعْنِي وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ كَوْنُكُمْ مُشْتَرِكِينَ فِي الْعَذَابِ وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ الْمُصِيبَةُ إِذَا عَمَّتْ طَابَتْ، وَقَالَتِ الْخَنْسَاءُ فِي هَذَا الْمَعْنَى:

وَلَوْلَا كَثْرَةُ الْبَاكِينَ حَوْلِي ... عَلَى إِخْوَانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِي

وَلَا يَبْكُونَ مِثْلَ أَخِي وَلَكِنْ ... أُعَزِّي النَّفْسَ عَنْهُ بِالتَّأَسِّي

فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ حُصُولَ الشَّرِكَةِ فِي ذَلِكَ الْعَذَابِ لَا يُفِيدُ التَّخْفِيفَ كَمَا كَانَ يُفِيدُهُ فِي الدُّنْيَا وَالسَّبَبُ فِيهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>