تِلْكَ الْمَحَبَّةُ بِالنَّفْرَةِ، لِأَنَّ تِلْكَ الْمَحَبَّةَ إِنَّمَا حَصَلَتْ لِاعْتِقَادِ حُصُولِ الْخَيْرِ وَالرَّاحَةِ، فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ الِاعْتِقَادُ، وَحَصَلَ عَقِيبَهُ اعْتِقَادُ أَنَّ الْحَاصِلَ هُوَ الضَّرَرُ وَالْأَلَمُ، وَجَبَ أَنْ تَتَبَدَّلَ تِلْكَ الْمَحَبَّةُ بِالْبِغْضَةِ، لِأَنَّ تَبَدُّلَ الْعِلَّةِ يُوجِبُ تَبَدُّلَ الْمَعْلُولِ، أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْخَيْرَاتُ الْمُوجِبَةُ لِلْمَحَبَّةِ، خَيْرَاتٍ بَاقِيَةً أَبَدِيَّةً، غَيْرَ قَابِلَةٍ لِلتَّبَدُّلِ وَالتَّغَيُّرِ، كَانَتْ تِلْكَ الْمَحَبَّةُ أَيْضًا مَحَبَّةً بَاقِيَةً آمِنَةً مِنَ التَّغَيُّرِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا الْأَصْلَ فَنَقُولُ الَّذِينَ حَصَلَتْ بَيْنَهُمْ مَحَبَّةٌ وَمَوَدَّةٌ فِي الدُّنْيَا، إِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْمَحَبَّةُ لِأَجْلِ طَلَبِ الدُّنْيَا وَطَيِّبَاتِهَا وَلَذَّاتِهَا، فَهَذِهِ الْمَطَالِبُ لَا تَبْقَى فِي الْقِيَامَةِ، بَلْ يَصِيرُ طَلَبُ الدُّنْيَا سَبَبًا لِحُصُولِ الْآلَامِ وَالْآفَاتِ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلَا جَرَمَ تَنْقَلِبُ هَذِهِ الْمَحَبَّةُ الدُّنْيَوِيَّةُ بِغْضَةً وَنَفْرَةً فِي الْقِيَامَةِ، أَمَّا إِنْ كَانَ الْمُوجِبُ لِحُصُولِ الْمَحَبَّةِ فِي الدُّنْيَا الِاشْتِرَاكَ فِي مَحَبَّةِ اللَّهِ وَفِي خِدْمَتِهِ وَطَاعَتِهِ، فَهَذَا السَّبَبُ غَيْرُ قَابِلٍ لِلنَّسْخِ وَالتَّغَيُّرِ، فَلَا جَرَمَ كَانَتْ هَذِهِ الْمَحَبَّةُ بَاقِيَةً فِي الْقِيَامَةِ، بَلْ كَأَنَّهَا تَصِيرُ أَقْوَى وَأَصْفَى وَأَكْمَلَ وَأَفْضَلَ مِمَّا كَانَتْ فِي الدُّنْيَا، فَهَذَا هُوَ التَّفْسِيرُ الْمُطَابِقُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا/ الْمُتَّقِينَ، الْحُكْمُ الثَّانِي: من أحكم يوم القيامة، وقوله تعالى: يَا عِبادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ وَقَدْ ذَكَرْنَا مِرَارًا أَنَّ عَادَةَ الْقُرْآنِ جَارِيَةٌ بِتَخْصِيصِ لَفْظِ الْعِبَادِ، بِالْمُؤْمِنِينَ الْمُطِيعِينَ المتقين، فقوله يا عِبادِ كَلَامُ اللَّهُ تَعَالَى، فَكَأَنَّ الْحَقَّ يُخَاطِبُهُمْ بِنَفْسِهِ ويقول لهم يَا عِبادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ وَفِيهِ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ مِمَّا يُوجِبُ الْفَرَحَ أَوَّلُهَا: أَنَّ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَاطَبَهُمْ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَهَذَا تَشْرِيفٌ عَظِيمٌ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُشَرِّفَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ، قَالَ: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الْإِسْرَاءِ: ١] وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ فَأَزَالَ عَنْهُمُ الْخَوْفَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ فَنَفَى عَنْهُمُ الْحُزْنَ بِسَبَبِ فَوْتِ الدُّنْيَا الْمَاضِيَةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ قِيلَ الَّذِينَ آمَنُوا مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ مُضْمَرٌ، وَالتَّقْدِيرُ يُقَالُ لَهُمْ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَعْنِي الَّذِينَ آمَنُوا، قَالَ مُقَاتِلٌ: إِذَا وَقَعَ الْخَوْفُ يوم القيامة، نادى مناد يا عِبادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ فَإِذَا سَمِعُوا النِّدَاءَ رفع الخلائق رؤوسهم، فَيُقَالُ الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ فَتُنَكِّسُ أهل الأديان الباطلة رؤوسهم الْحُكْمُ الثَّالِثُ: مِنْ وَقَائِعِ الْقِيَامَةِ، أَنَّهُ تَعَالَى إِذَا أَمَّنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ، وَجَبَ أَنْ يَمُرَّ حِسَابُهُمْ عَلَى أَسْهَلِ الْوُجُوهِ وَعَلَى أَحْسَنِهَا، ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ وَالْحَبْرَةُ الْمُبَالَغَةُ فِي الْإِكْرَامِ فِيمَا وُصِفَ بِالْجَمِيلِ، يَعْنِي يُكْرَمُونَ إِكْرَامًا عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ، وَهَذَا مِمَّا سَبَقَ تَفْسِيرُهُ فِي سُورَةِ الرُّومِ.
ثُمَّ قَالَ: يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ قَالَ الْفَرَّاءُ: الْكُوبُ الْمُسْتَدِيرُ الرَّأْسِ الَّذِي لَا أُذُنَ لَهُ، فَقَوْلُهُ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَطْعُومِ، وَقَوْلُهُ وَأَكْوابٍ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَشْرُوبِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى تَرَكَ التَّفْصِيلَ وَذَكَرَ بَيَانًا كُلِّيًّا، فَقَالَ: وَفِيها مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ.
ثُمَّ قَالَ: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي وِرَاثَةِ الْجَنَّةِ وَجْهَيْنِ فِي قَوْلِهِ أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١٠، ١١] وَلَمَّا ذَكَرَ الطَّعَامَ والشراب فيما تقدم، ذكر هاهنا حَالَ الْفَاكِهَةِ، فَقَالَ: لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ (كَثِيرَةٌ) مِنْها تَأْكُلُونَ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْعَرَبِ أَوَّلًا، ثُمَّ إِلَى الْعَالَمِينَ ثَانِيًا، وَالْعَرَبُ كَانُوا فِي ضيق شديد
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute