مَنْصِبَ الدِّينِ أَعْلَى وَأَعْظَمُ مِنْ مَنْصِبِ الدُّنْيَا، وَأَعْلَى الْأَشْيَاءِ وَأَشْرَفُهَا مَنْصِبًا فِي الدِّينِ هُوَ الْقُرْآنُ، لِأَجْلِ أَنَّ بِهِ ثَبَتَتْ نُبُوَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِهِ ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فِي سَائِرِ كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ، كَمَا قَالَ فِي صِفَتِهِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [الْمَائِدَةِ: ٤٨] وَبِهِ ظَهَرَتْ دَرَجَاتُ أَرْبَابِ السَّعَادَاتِ، وَدَرَكَاتُ أَرْبَابِ الشَّقَاوَاتِ، فَعَلَى هَذَا لَا شَيْءَ إِلَّا وَالْقُرْآنُ أَعْظَمُ قَدْرًا وَأَعْلَى ذِكْرًا وَأَعْظَمُ مَنْصِبًا مِنْهُ فَلَوْ كَانَ نُزُولُهُ إِنَّمَا وَقَعَ فِي لَيْلَةٍ أُخْرَى سِوَى لَيْلَةِ الْقَدْرِ، لَكَانَتْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ هِيَ هَذِهِ الثَّانِيَةُ لَا الْأُولَى، وَحَيْثُ أَطْبَقُوا عَلَى أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ الَّتِي وَقَعَتْ فِي رَمَضَانَ، عَلِمْنَا أَنَّ الْقُرْآنَ إِنَّمَا أُنْزِلَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ اللَّيْلَةِ الْمُبَارَكَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، هِيَ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَمَا رَأَيْتُ لَهُمْ فِيهِ دَلِيلًا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا قَنِعُوا فِيهِ بِأَنْ نَقَلُوهُ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ، فَإِنْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ كَلَامٌ فَلَا مَزِيدَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَالْحَقُّ هُوَ الْأَوَّلُ، ثُمَّ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْقَوْلِ زَعَمُوا أَنَّ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ لَهَا أَرْبَعَةُ أَسْمَاءَ: اللَّيْلَةُ الْمُبَارَكَةُ، وَلَيْلَةُ الْبَرَاءَةِ، وَلَيْلَةُ الصَّكِّ، وَلَيْلَةُ الرَّحْمَةِ، وَقِيلَ إِنَّمَا سُمِّيَتْ بِلَيْلَةِ الْبَرَاءَةِ، وَلَيْلَةِ الصَّكِّ، لِأَنَّ الْبُنْدَارَ إِذَا اسْتَوْفَى الْخَرَاجَ مِنْ أَهْلِهِ كَتَبَ لَهُمُ الْبَرَاءَةَ، كَذَلِكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَكْتُبُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْبَرَاءَةَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ، وَقِيلَ هَذِهِ اللَّيْلَةُ مُخْتَصَّةٌ بِخَمْسِ خِصَالٍ الْأُولَى: تَفْرِيقُ كُلِّ أَمْرٍ حَكِيمٍ فِيهَا، قَالَ تَعَالَى: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ وَالثَّانِيَةُ: فَضِيلَةُ الْعِبَادَةِ فِيهَا،
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ مِائَةَ رَكْعَةٍ أَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِ مِائَةَ مَلَكٍ ثَلَاثُونَ يُبَشِّرُونَهُ بِالْجَنَّةِ، وَثَلَاثُونَ يُؤَمِّنُونَهُ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَثَلَاثُونَ يَدْفَعُونَ عَنْهُ آفَاتِ الدُّنْيَا، وَعَشَرَةٌ يَدْفَعُونَ عَنْهُ مَكَايِدَ الشَّيْطَانِ» ،
الْخَصْلَةُ الثَّالِثَةُ: نُزُولُ الرَّحْمَةِ،
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ اللَّهَ يَرْحَمُ أُمَّتِي فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ بِعَدَدِ شَعْرِ أَغْنَامِ بَنِي كَلْبٍ»
وَالْخَصْلَةُ الرَّابِعَةُ: حُصُولُ الْمَغْفِرَةِ،
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَغْفِرُ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، إِلَّا لِكَاهِنٍ، أَوْ مُشَاحِنٍ، أَوْ مُدْمِنِ خَمْرٍ، أَوْ عَاقٍّ لِلْوَالِدَيْنِ، أَوْ مُصِرٍّ عَلَى الزِّنَا»
وَالْخَصْلَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَعْطَى رَسُولَهُ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ تَمَامَ الشَّفَاعَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ سَأَلَ لَيْلَةَ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ شَعْبَانَ فِي أُمَّتِهِ فَأُعْطِيَ الثُّلُثَ مِنْهَا، ثُمَّ سَأَلَ لَيْلَةَ الرَّابِعَ عَشَرَ، فَأُعْطِيَ الثُّلُثَيْنِ، ثُمَّ سَأَلَ لَيْلَةَ الْخَامِسَ عَشَرَ، فَأُعْطِيَ الْجَمِيعَ إِلَّا مَنْ شَرَدَ عَلَى اللَّهِ شِرَادَ الْبَعِيرِ، هَذَا الْفَصْلُ نَقَلْتُهُ مِنَ «الْكَشَّافِ» ، فَإِنْ قِيلَ لَا شَكَّ أَنَّ الزَّمَانَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُدَّةِ الْمُمْتَدَّةِ الَّتِي/ تَقْدِيرُهَا حَرَكَاتُ الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ، وَأَنَّهُ فِي ذَاتِهِ أَمْرٌ مُتَشَابِهُ الْأَجْزَاءِ فَيَمْتَنِعُ كَوْنُ بَعْضِهَا أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ، وَالْمَكَانُ عِبَارَةٌ عَنِ الْفَضَاءِ الْمُمْتَدِّ وَالْخَلَاءِ الْخَالِي فَيَمْتَنِعُ كَوْنُ بَعْضِ أَجْزَائِهِ أَشْرَفَ مِنَ الْبَعْضِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ تَخْصِيصُ بَعْضِ أَجْزَائِهِ بِمَزِيدِ الشَّرَفِ دُونَ الْبَاقِي تَرْجِيحًا لِأَحَدِ طَرَفَيِ الْمُمْكِنِ عَلَى الْآخَرِ لَا لِمُرَجِّحٍ وَإِنَّهُ مُحَالٌ، قُلْنَا الْقَوْلُ بِإِثْبَاتِ حُدُوثِ الْعَالَمِ وَإِثْبَاتِ أَنَّ فَاعِلَهُ فَاعِلٌ مُخْتَارٌ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْحَرْفِ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ مِنَ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ تَخْصِيصُ وَقْتٍ مُعَيَّنٍ بِإِحْدَاثِ الْعَالَمِ فِيهِ دُونَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ، فَإِنْ بَطَلَ هَذَا الْأَصْلُ فَقَدْ بَطَلَ حُدُوثُ الْعَالَمِ وَبَطَلَ الْفَاعِلُ الْمُخْتَارُ وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ الْخَوْضُ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ فَائِدَةً، وَإِنْ صَحَّ هَذَا الْأَصْلُ فَقَدْ زَالَ مَا ذَكَرْتُمْ مِنَ السُّؤَالِ، فَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ الْمُعْتَمَدُ، وَالنَّاسُ قَالُوا لَا يَبْعُدُ أَنْ يَخُصَّ اللَّهُ تَعَالَى بَعْضَ الْأَوْقَاتِ بِمَزِيدِ تَشْرِيفٍ حَتَّى يَصِيرَ ذَلِكَ دَاعِيًا لِلْمُكَلَّفِ إِلَى الْإِقْدَامِ عَلَى الطَّاعَاتِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَلِهَذَا السَّبَبِ بَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى أخفاه في الأوقات وماعيته لأنه لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا جَوَّزَ الْمُكَلَّفُ فِي كُلِّ وَقْتٍ مُعَيَّنٍ أَنْ يَكُونَ هُوَ ذَلِكَ الْوَقْتَ الشَّرِيفَ فَيَصِيرُ ذَلِكَ حَامِلًا لَهُ عَلَى الْمُوَاظَبَةِ عَلَى الطَّاعَاتِ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ، وَإِذَا وَقَعْتَ عَلَى هَذَا الْحَرْفِ ظَهَرَ عِنْدَكَ أَنَّ الزَّمَانَ وَالْمَكَانَ إِنَّمَا فَازَا بِالتَّشْرِيفَاتِ الزَّائِدَةِ تَبَعًا لِشَرَفِ الْإِنْسَانِ فَهُوَ الْأَصْلُ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَهُوَ تَبَعٌ لَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute