اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْوَعِيدَ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ ذَكَرَ الْوَعْدَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ فَقَالَ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ قَالَ أَصْحَابُنَا كُلُّ مَنِ اتَّقَى الشِّرْكَ فَقَدْ صَدَقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْمُتَّقِي فَوَجَبَ أَنْ يَدْخُلَ الْفَاسِقُ فِي هَذَا الْوَعْدِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مِنْ أَسْبَابِ تَنَعُّمِهِمْ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ أَوَّلُهَا: مَسَاكِنُهُمْ فَقَالَ: فِي مَقامٍ أَمِينٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَسْكَنَ إِنَّمَا يَطِيبُ بِشَرْطَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ آمِنًا عَنْ جَمِيعِ مَا يَخَافُ وَيَحْذَرُ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ فِي مَقامٍ أَمِينٍ قَرَأَ الْجُمْهُورُ فِي مَقَامٍ بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ بِضَمِّ الْمِيمِ، قال صاحب «الكشاف» : المقام بفتح الميم هو مَوْضِعُ الْقِيَامِ، وَالْمُرَادُ الْمَكَانُ وَهُوَ مِنَ الْخَاصِّ الَّذِي جُعِلَ مُسْتَعْمَلًا فِي الْمَعْنَى الْعَامِّ وَبِالضَّمِّ هُوَ مَوْضِعُ الْإِقَامَةِ، وَالْأَمِينُ مِنْ قَوْلِكَ أَمُنَ الرَّجُلُ أَمَانَةً فَهُوَ أَمِينٌ وَهُوَ ضِدُّ الْخَائِنِ، فَوُصِفَ بِهِ الْمَكَانُ اسْتِعَارَةً لِأَنَّ الْمَكَانَ الْمُخِيفَ كَأَنَّهُ يَخُونُ صَاحِبَهُ وَالشَّرْطُ الثَّانِي: لِطِيبِ الْمَكَانِ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَصَلَ فِيهِ أَسْبَابُ النُّزْهَةِ وَهِيَ الْجَنَّاتُ وَالْعُيُونُ، فَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ فِي مَسَاكِنِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَقَدْ وَصَفَهَا بِمَا لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مِنْ تَنَعُّمَاتِهِمُ الْمَلْبُوسَاتُ فَقَالَ: يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ قِيلَ السُّنْدُسُ مَا رَقَّ مِنَ الدِّيبَاجِ، وَالْإِسْتَبْرَقُ مَا غَلُظَ مِنْهُ، وَهُوَ تَعْرِيبُ اسْتَبْرَكْ، فَإِنْ قَالُوا كَيْفَ جَازَ وُرُودُ الْأَعْجَمِيِّ فِي الْقُرْآنِ؟ قُلْنَا لَمَّا عُرِّبَ فَقَدْ صَارَ عَرَبِيًّا.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: فَهُوَ جُلُوسُهُمْ عَلَى صِفَةِ التَّقَابُلِ وَالْغَرَضُ مِنْهُ اسْتِئْنَاسُ الْبَعْضِ بِالْبَعْضِ، فَإِنْ قَالُوا الْجُلُوسُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُوحِشٌ لِأَنَّهُ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُطَّلِعًا عَلَى مَا يَفْعَلُهُ الْآخَرُ، وَأَيْضًا فَالَّذِي يَقِلُّ ثَوَابُهُ إِذَا اطَّلَعَ عَلَى حَالِ مَنْ يَكْثُرُ ثَوَابُهُ يَتَنَغَّصُ عَيْشُهُ، قُلْنَا أَحْوَالُ الْآخِرَةِ بِخِلَافِ أَحْوَالِ الدُّنْيَا.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَزْوَاجُهُمْ فَقَالَ: كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ الْكَافُ فِيهِ وَجْهَانِ أَنْ تَكُونَ مَرْفُوعَةً وَالتَّقْدِيرُ الْأَمْرُ كَذَلِكَ أَوْ مَنْصُوبَةً وَالتَّقْدِيرُ آتَيْنَاهُمْ مِثْلَ ذَلِكَ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: جَعَلْنَاهُمْ أَزْوَاجًا كَمَا يُزَوَّجُ الْبَعْلُ بِالْبَعْلِ أَيْ جَعَلْنَاهُمُ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ هَلْ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ عَقْدِ التَّزْوِيجِ أَمْ لَا؟، قَالَ يُونُسُ قَوْلُهُ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ أَيْ قَرَنَّاهُمْ بِهِنَّ فَلَيْسَ مِنْ عَقْدِ التَّزْوِيجِ، وَالْعَرَبُ لَا تَقُولُ تَزَوَّجْتُ بِهَا وَإِنَّمَا تَقُولُ تَزَوَّجْتُهَا، قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالتَّنْزِيلُ يَدُلُّ عَلَى مَا قَالَ يُونُسُ وَذَلِكَ قَوْلُهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها [الْأَحْزَابِ: ٣٧] وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ تَزَوَّجْتَ بِهَا زَوَّجْنَاكَ بِهَا وَأَيْضًا فَقَوْلُ الْقَائِلِ زَوَّجْتُهُ بِهِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute