للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

دَلِيلًا عَلَى الصِّدْقِ، فَثَبَتَ أَنَّا إِذَا جَعَلْنَا كَوْنَهُ عَزِيزًا حَكِيمًا صِفَتَيْنِ لِلَّهِ تَعَالَى يَحْصُلُ مِنْهُ هَذِهِ الْفَائِدَةُ، وَأَمَّا إِذَا جَعَلْنَاهُمَا صِفَتَيْنِ لِلْكِتَابِ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ هَذِهِ الْفَائِدَةُ، فَكَانَ الْأَوَّلُ أَوْلَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِيهِ مَبَاحِثُ:

الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ يَجُوزُ إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، لأنه حصل في ذوات السموات وَالْأَرْضِ أَحْوَالٌ دَالَّةٌ عَلَى وُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى مِثْلَ مَقَادِيرُهَا وَكَيْفِيَّاتُهَا وَحَرَكَاتُهَا، وَأَيْضًا الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ والنجوم والجبال والبحار موجودة في السموات وَالْأَرْضِ وَهِيَ آيَاتٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: إن في خلق السموات وَالْأَرْضِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْبَقَرَةِ: ١٦٤] وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الْأَنْعَامِ: ١] .

الْبَحْثُ الثَّانِي: قَدْ ذَكَرْنَا الوجوه الكثيرة في دلالة السموات وَالْأَرْضِ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَا بَأْسَ بِإِعَادَةِ بَعْضِهَا فَنَقُولُ إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا أَجْسَامٌ لَا تَخْلُو عَنِ الْحَوَادِثِ، وَمَا لَا يَخْلُو عَنِ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ فَهَذِهِ الْأَجْسَامُ حَادِثَةٌ وَكُلُّ حَادِثٍ فَلَهُ مُحْدِثٌ الثَّانِي: أَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنَ الْأَجْزَاءِ وَتِلْكَ الْأَجْزَاءُ مُتَمَاثِلَةٌ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَمَاثِلَةٌ، وَتِلْكَ الْأَجْزَاءُ وَقَعَ بَعْضُهَا فِي الْعُمْقِ دُونَ السَّطْحِ وَبَعْضُهَا فِي السَّطْحِ دُونَ الْعُمْقِ فَيَكُونُ وُقُوعُ كُلِّ جُزْءٍ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ مِنَ الْجَائِزَاتِ وَكُلُّ جَائِزٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَجِّحٍ وَمُخَصِّصٍ الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَفْلَاكَ وَالْعَنَاصِرَ مَعَ تَمَاثُلِهَا فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ الْجِسْمِيَّةِ اخْتَصَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِصِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ كَالْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ وَاللَّطَافَةِ وَالْكَثَافَةِ الْفَلَكِيَّةِ وَالْعُنْصُرِيَّةِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَمْرًا جَائِزًا وَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُرَجِّحٍ الرَّابِعُ: أَنَّ أَجْرَامَ الْكَوَاكِبِ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْأَلْوَانِ مِثْلَ كُمُودَةُ زحل، وبياض المشتري، وحمزة الْمِرِّيخِ، وَالضَّوْءُ الْبَاهِرُ لِلشَّمْسِ، وَدُرِّيَّةُ الزَّهْرَةِ، وَصُفْرَةُ عُطَارِدَ، وَمَحْوُ الْقَمَرِ، وَأَيْضًا فَبَعْضُهَا سَعِيدَةٌ، وَبَعْضُهَا نَحِسَةٌ، وَبَعْضُهَا نَهَارِيٌّ ذَكَرٌ، وَبَعْضُهَا لِيَلِيٌّ أُنْثَى، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأَجْسَامَ فِي ذَوَاتِهَا مُتَمَاثِلَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُ الصِّفَاتِ لِأَجْلِ أَنَّ الْإِلَهَ الْقَادِرَ الْمُخْتَارَ خَصَّصَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِصِفَتِهِ الْمُعَيَّنَةِ الْخَامِسُ: أَنَّ كُلَّ فَلَكٍ فَإِنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالْحَرَكَةِ إِلَى جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَمُخْتَصٌّ بِمِقْدَارٍ وَاحِدٍ مِنَ السُّرْعَةِ وَالْبُطْءِ، وَكُلُّ ذَلِكَ أَيْضًا مِنَ/ الْجَائِزَاتِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ السَّادِسُ: أَنَّ كُلَّ فَلَكٍ مُخْتَصٍّ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ وَكُلُّ ذَلِكَ أَيْضًا مِنَ الْجَائِزَاتِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، وَتَمَامُ الْوُجُوهِ مَذْكُورٌ فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَاتِ.

الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ يَقْتَضِي كَوْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ مُخْتَصَّةً بِالْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ إِنَّهَا آيَاتٌ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا انْتَفَعَ بِهَا الْمُؤْمِنُ دُونَ الْكَافِرِ أُضِيفَ كَوْنُهَا آيَاتٍ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَةِ: ٢] فَإِنَّهُ هُدًى لِكُلِّ النَّاسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: هُدىً لِلنَّاسِ [الْبَقَرَةِ: ١٨٥] إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا انْتَفَعَ بِهَا الْمُؤْمِنُ خَاصَّةً لا جرم قيل هُدىً لِلْمُتَّقِينَ فكذا هاهنا، وَقَالَ الْأَصْحَابُ الدَّلِيلُ وَالْآيَةُ هُوَ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ حُصُولُ الْعِلْمِ، وَذَلِكَ الْعِلْمُ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى لَا بِإِيجَابِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ، وَاللَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا خَلَقَ ذَلِكَ الْعِلْمَ لِلْمُؤْمِنِ لَا لِلْكَافِرِ فَكَانَ ذَلِكَ آيَةً دَلِيلًا فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ لَا فِي حَقِّ الْكَافِرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وفيه مباحث:

<<  <  ج: ص:  >  >>