قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ
[الشُّعَرَاءِ: ٦١، ٦٢] وَدَاوُدُ بَكَى عَلَى زَلَّتِهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَعِيسَى لَمْ يَضَعْ لَبِنَةً عَلَى لَبِنَةٍ وَقَالَ: إِنَّهَا مَعْبَرَةٌ فَاعْبُرُوهَا وَلَا تَعْمرُوهَا، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي آدَمَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طَهَ: ١١٥] وَفِي يُونُسَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ [الْقَلَمِ: ٤٨] .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ كُلَّ الرُّسُلِ أُولُو عَزْمٍ وَلَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ رَسُولًا إِلَّا كَانَ ذَا عَزْمٍ وَحَزْمٍ، وَرَأْيٍ وَكَمَالٍ وَعَقْلٍ، وَلَفْظَةُ مِنْ فِي قَوْلِهِ مِنَ الرُّسُلِ تَبْيِينٌ لَا تَبْعِيضٌ كَمَا يُقَالُ كَسَيْتُهُ مِنَ الْخَزِّ وَكَأَنَّهُ قِيلَ اصْبِرْ كَمَا صَبَرَ الرُّسُلُ مِنْ قَبْلِكَ عَلَى أَذَى قَوْمِهِمْ، وَوَصَفَهُمْ بِالْعَزْمِ لِصَبْرِهِمْ وَثَبَاتِهِمْ.
ثُمَّ قَالَ: وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ وَمَفْعُولُ الِاسْتِعْجَالِ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ لَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ بِالْعَذَابِ، قِيلَ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَجِرَ مِنْ قَوْمِهِ بَعْضَ الضَّجَرِ، وَأَحَبَّ أَنْ يُنْزِلَ اللَّهُ الْعَذَابَ بِمَنْ أَبَى مِنْ قَوْمِهِ فَأُمِرَ بِالصَّبْرِ وَتَرْكِ الِاسْتِعْجَالِ، ثُمَّ أُخْبِرَ أَنَّ ذَلِكَ الْعَذَابَ مِنْهُمْ قَرِيبٌ، وَأَنَّهُ نَازِلٌ بِهِمْ لَا مَحَالَةَ وَإِنْ تَأَخَّرَ، وَعِنْدَ نُزُولِ ذَلِكَ الْعَذَابِ بِهِمْ يَسْتَقْصِرُونَ مُدَّةَ لَبْثِهِمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى يَحْسِبُونَهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ إِذَا عَايَنُوا الْعَذَابَ صَارَ طُولُ لَبْثِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْبَرْزَخِ، كَأَنَّهُ سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ، أَوْ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ لِهَوْلِ مَا عَايَنُوا، أَوْ لِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا مَضَى صَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ، وَإِنْ كَانَ طَوِيلًا قَالَ الشَّاعِرُ:
كَأَنَّ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ إِذَا مَضَى ... كَأَنَّ شَيْئًا لَمْ يَزَلْ إذا أنى
واعلم أنه تم الكلام هاهنا، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بَلاغٌ أَيْ هَذَا بَلَاغٌ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ [إِبْرَاهِيمَ: ٥٢] أَيْ هَذَا الَّذِي وُعِظْتُمْ بِهِ فِيهِ كِفَايَةٌ فِي الْمَوْعِظَةِ أَوْ هَذَا تَبْلِيغٌ مِنَ الرُّسُلِ، فَهَلْ يَهْلَكُ إِلَّا الْخَارِجُونَ عَنْ الِاتِّعَاظِ بِهِ وَالْعَمَلِ بِمُوجِبِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: تَمَّ تَفْسِيرُ هَذِهِ السُّورَةِ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ الْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّمِائَةٍ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute