للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إِنَّ عُبَادَةَ بْنَ كَعْبٍ مَعَ كَوْنِهِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يُكَلِّمْهُ الْمُؤْمِنُونَ مُدَّةً، وَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَلَامَةٌ لِظُهُورِ حَالِ مَنْ كَانَ مُنَافِقًا، فَإِنْ كَانَ ظَهَرَ حَالُهُمْ بِغَيْرِ هَذَا، فَلَا مَعْنَى لِجَعْلِ هَذَا عَلَامَةً وَإِنْ ظَهَرَ بِهَذَا الظُّهُورِ كَانَ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَوِ امْتَنَعَ مِنْ قَبُولِهِمْ لِاتِّبَاعِهِ لَامْتَنَعَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّبِعُوهُ [الْأَعْرَافِ: ١٥٨] وَقَوْلُهُ فَاتَّبِعُونِي [مريم: ٤٣] فَإِنْ قِيلَ هَذَا ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

لَنْ تَتَّبِعُونا [الفتح: ١٥] وَقَالَ: لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً [التَّوْبَةِ: ٨٣] فَكَيْفَ كَانُوا يَتَّبِعُونَهُ مَعَ النَّفْيِ؟

الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَرْبُ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَإِنَّ الرُّعْبَ اسْتَوْلَى عَلَى قُلُوبِ الناس ولم يبق الكفار بَعْدَهُ شِدَّةٌ وَبَأْسٌ، وَاتِّفَاقُ الْجُمْهُورِ يَدُلُّ عَلَى الْقُوَّةِ وَالظُّهُورِ، نَقُولُ أَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُقَيَّدًا، تَقْدِيرُهُ: لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَأَنْتُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، وَيَجِبُ هَذَا التَّقْيِيدُ لِأَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ أَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ بَلِ الْأَكْثَرُ ذَلِكَ، وَمَا كَانَ يَجُوزُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ لَسْتُمْ مُسْلِمِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً [النِّسَاءِ: ٩٤] وَمَعَ الْقَوْلِ بِإِسْلَامِهِمْ مَا كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَمْنَعَهُمْ مَا كَانَ مِنَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَعَ وُجُوبِهِ عَلَيْهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ مُقَيَّدًا، وَقَدْ تَبَيَّنَ حُسْنُ حَالِهِمْ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَاهُمْ إِلَى جِهَادٍ فَأَطَاعَهُ قَوْمٌ وَامْتَنَعَ آخَرُونَ، وَظَهَرَ أَمْرُهُمْ وَعُلِمَ مَنِ اسْتَمَرَّ عَلَى الْكُفْرِ مِمَّنِ اسْتَقَرَّ قَلْبُهُ عَلَى الْإِيمَانِ الثَّانِي: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ لَنْ تَتَّبِعُونا [الفتح: ١٥] فِي هَذَا الْقِتَالِ فَحَسْبُ وَقَوْلُهُ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ [التوبة: ٨٣] كَانَ فِي غَيْرِ هَذَا وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَأَمَّا اتِّفَاقُ الْجُمْهُورِ فَنَقُولُ لَا مُخَالَفَةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ لِأَنَّا نَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَاهُمْ أَوَّلًا، وَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيْضًا دَعَاهُمْ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ جَوَازَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّمَا نَحْنُ نُثْبِتُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَاهُمْ فَإِنْ قَالُوا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَعَاهُمْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ تَنَافٍ، وَإِنْ قَالُوا لَمْ يَدْعُهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالنَّفْيُ وَالْجَزْمُ بِهِ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَدْ وَقَعَ، وَكَيْفَ لَا وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ مِنْ كَلَامِ/ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي [آلِ عِمْرَانَ: ٣١] وَقَالَ: وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ [الزُّخْرُفِ: ٦١] وَمِنْهُمْ مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ وَاخْتَارَ اتِّبَاعَ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ بقاء جمعهم على النفاق والكفر بعد ما اتَّسَعَتْ دَائِرَةُ الْإِسْلَامِ وَاجْتَمَعَتِ الْعَرَبُ عَلَى الْإِيمَانِ بِعِيدٌ، وَيَوْمَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنْ تَتَّبِعُونا كَانَ أَكْثَرُ الْعَرَبِ عَلَى الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، لِأَنَّهُ كَانَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ وَقَبْلَ أَخْذِ حُصُونٍ كَثِيرَةٍ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ لَمْ يَبْقَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرْبٌ مَعَ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ، قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ دَعَاهُمْ إِلَى الْحَرْبِ لِأَنَّهُ خَرَجَ مُحْرِمًا وَمَعَهُ الْهُدَيُ لِيَعْلَمَ قُرَيْشٌ أَنَّهُ لَا يَطْلُبُ الْقِتَالَ وَامْتَنَعُوا فَقَالَ سَتُدْعَوْنَ إِلَى الْحَرْبِ وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ يَكُونُ خَصْمُهُ مُسَلَّحًا مُحَارِبًا أَكْثَرُ بَأْسًا مِمَّنْ يَكُونُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ فَكَانَ قَدْ عَلِمَ مِنْ حَالِ مَكَّةَ أَنَّهُمْ لَا يُوَقِّرُونَ حَاجًّا وَلَا مُعْتَمِرًا فَقَوْلُهُ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ يَعْنِي أُولِي سِلَاحٍ مِنْ آلَةِ الْحَدِيدِ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ، وَمَنْ قَالَ بِأَنَّ الدَّاعِيَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ تَمَسَّكَ بِالْآيَةِ عَلَى خلافتهما ودلالتها ظاهرة، وحينئذ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا يَقَعُ، وَقُرِئَ أَوْ يُسْلِمُوا بِالنَّصْبِ بِإِضْمَارِ أَنْ عَلَى مَعْنَى تُقَاتِلُونَهُمْ إِلَى أَنْ يُسْلِمُوا، وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ هُوَ أَنَّ أَوْ لَا تَجِيءُ إِلَّا بَيْنَ الْمُتَغَايِرَيْنِ وَتُنْبِئُ عَنِ الْحَصْرِ فَيُقَالُ الْعَدَدُ زَوْجٌ أَوْ فَرْدٌ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ هُوَ زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو، وَلِهَذَا يُقَالُ الْعَدَدُ زَوْجٌ أَوْ خَمْسَةٌ أَوْ غَيْرُهُمَا، إِذَا عُلِمَ هَذَا فَقَالَ الْقَائِلُ لَأَلْزَمَنَّكَ أَوْ تَقْضِينِي حَقِّي يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الزَّمَانَ انْحَصَرَ فِي قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ يَكُونُ فِيهِ الْمُلَازَمَةُ، وَقِسْمٌ يَكُونُ فِيهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>