اثْنَيْنِ الدِّينُ الْمَتِينُ، وَأَحَدُهُمَا نَسِيبٌ تَرَجَّحَ بِالنَّسَبِ عِنْدَ النَّاسِ لَا عِنْدَ اللَّهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى [النَّجْمِ: ٣٩] وَشَرَفُ النَّسَبِ لَيْسَ مُكْتَسَبًا وَلَا يَحْصُلُ بِسَعْيٍ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: مَا الْحِكْمَةُ فِي اخْتِيَارِ النَّسَبِ مِنْ جُمْلَةِ أَسْبَابِ التَّفَاخُرِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَالَ؟ نَقُولُ الْأُمُورُ الَّتِي يُفْتَخَرُ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً لَكِنَّ النَّسَبَ أَعْلَاهَا، لِأَنَّ الْمَالَ قَدْ يَحْصُلُ لِلْفَقِيرِ فَيَبْطُلُ افْتِخَارُ الْمُفْتِخِرِ بِهِ، وَالْحُسْنُ وَالسِّنُّ، وَغَيْرُ ذَلِكَ غَيْرُ ثَابِتٍ دَائِمٍ، وَالنَّسَبُ ثَابِتٌ مُسْتَمِرٌّ غَيْرُ مَقْدُورِ التَّحْصِيلِ لِمَنْ لَيْسَ لَهُ فَاخْتَارَهُ اللَّهُ لِلذِّكْرِ وَأَبْطَلَ اعْتِبَارَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى التَّقْوَى لِيُعْلَمَ مِنْهُ بُطْلَانُ غَيْرِهِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: إِذَا كَانَ وُرُودُ الْآيَةِ لِبَيَانِ عَدَمِ جَوَازِ الِافْتِخَارِ بِغَيْرِ التَّقْوَى فَهَلْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا خَلَقْناكُمْ فَائِدَةٌ؟ نَقُولُ نَعَمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَتَرَجَّحُ عَلَى غَيْرِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَتَرَجَّحَ بِأَمْرٍ فِيهِ يَلْحَقُهُ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بَعْدَ وُجُودِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَتَرَجَّحَ عَلَيْهِ بِأَمْرٍ هُوَ قَبْلَهُ، وَالَّذِي بَعْدَهُ/ كَالْحُسْنِ وَالْقُوَّةِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَوْصَافِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَالَّذِي قَبْلَهُ فَإِمَّا رَاجِعٌ إِلَى الْأَصْلِ الَّذِي مِنْهُ وُجِدَ، أَوْ إلى الفاعل الذي هو له أوجد، كم يُقَالُ فِي إِنَاءَيْنِ هَذَا مِنَ النُّحَاسِ وَهَذَا مِنَ الْفِضَّةِ، وَيُقَالُ هَذَا عَمَلُ فُلَانٍ، وَهَذَا عَمَلُ فُلَانٍ، فَقَالَ تَعَالَى لَا تَرْجِيحَ فِيمَا خَلَقْتُمْ مِنْهُ لِأَنَّكُمْ كُلُّكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، وَلَا بِالنَّظَرِ إِلَى جَاعِلِينَ لِأَنَّكُمْ كُلُّكُمْ خَلَقَكُمُ اللَّهُ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَكُمْ تَفَاوُتٌ يَكُونُ بِأُمُورٍ تَلْحَقُكُمْ وَتَحْصُلُ بَعْدَ وُجُودِكُمْ وَأَشْرَفُهَا التَّقْوَى وَالْقُرْبُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ وفيه وجهان: أحدهما: جَعَلْناكُمْ شُعُوباً مُتَفَرِّقَةً لَا يُدْرَى مَنْ يَجْمَعُكُمْ كَالْعَجَمِ، وَقَبَائِلَ يَجْمَعُكُمْ وَاحِدٌ مَعْلُومٌ كَالْعَرَبِ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ وثانيهما: جَعَلْناكُمْ شُعُوباً دَاخِلِينَ فِي قَبَائِلَ، فَإِنَّ الْقَبِيلَةَ تَحْتَهَا الشُّعُوبُ، وَتَحْتَ الشُّعُوبِ الْبُطُونُ وَتَحْتَ الْبُطُونِ الْأَفْخَاذُ، وَتَحْتَ الْأَفْخَاذِ الْفَصَائِلُ، وَتَحْتَ الْفَصَائِلِ الْأَقَارِبُ، وَذَكَرَ الأعم لأنه أذهب للافتخار، لأن لأمر الْأَعَمَّ مِنْهَا يَدْخُلُهُ فُقَرَاءُ وَأَغْنِيَاءُ كَثِيرَةٌ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ، وَضُعَفَاءُ وَأَقْوِيَاءُ كَثِيرَةٌ غَيْرُ مَعْدُودَةٍ، ثُمَّ بَيَّنَ فَائِدَةَ ذَلِكَ وَهِيَ التَّعَارُفُ وَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّ فَائِدَةَ ذَلِكَ التَّنَاصُرُ لَا التَّفَاخُرُ وَثَانِيهُمَا: أَنَّ فَائِدَتَهُ التَّعَارُفُ لَا التَّنَاكُرُ، وَاللَّمْزُ وَالسُّخْرِيَةُ وَالْغِيبَةُ تُفْضِي إِلَى التَّنَاكُرِ لَا إِلَى التَّعَارُفِ وَفِيهِ مَعَانٍ لَطِيفَةٌ الْأُولَى: قَالَ تَعَالَى: إِنَّا خَلَقْناكُمْ وَقَالَ: وَجَعَلْناكُمْ لِأَنَّ الْخَلْقَ أَصْلٌ تَفَرَّعَ عَلَيْهِ الْجَعْلُ شُعُوباً فَإِنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْخَلْقُ وَالْإِيجَادُ، ثُمَّ الِاتِّصَافُ بِمَا اتَّصَفُوا بِهِ، لَكِنَّ الْجَعْلَ شُعُوبًا لِلتَّعَارُفِ وَالْخَلْقَ لِلْعِبَادَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيَاتِ: ٥٦] وَاعْتِبَارُ الْأَصْلِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى اعْتِبَارِ الْفَرْعِ، فَاعْلَمْ أَنَّ النَّسَبَ يُعْتَبَرُ بَعْدَ اعْتِبَارِ العبادة كما أن الجعل شعوبا يتحقق بعد ما يَتَحَقَّقُ الْخَلْقُ، فَإِنْ كَانَ فِيكُمْ عِبَادَةٌ تُعْتَبَرُ فِيكُمْ أَنْسَابُكُمْ وَإِلَّا فَلَا الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى:
خَلَقْناكُمْ، وجَعَلْناكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ الِافْتِخَارِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لِسَعْيِكُمْ وَلَا قُدْرَةَ لَكُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَكَيْفَ تَفْتَخِرُونَ بِمَا لَا مَدْخَلَ لَكُمْ فِيهِ؟ فَإِنْ قِيلَ الْهِدَايَةُ وَالضَّلَالُ كَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ [الْإِنْسَانِ: ٣] نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ [الشُّورَى: ٥٢] فَنَقُولُ أَثْبَتَ اللَّهُ لَنَا فِيهِ كَسْبًا مَبْنِيًّا عَلَى فعل، كم قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا [الْمُزَّمِّلِ: ١٩] .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَأَمَّا فِي النَّسَبِ فَلَا الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لِتَعارَفُوا إِشَارَةٌ إِلَى قِيَاسٍ خَفِيٍّ، وَبَيَانُهُ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّكُمْ جُعِلْتُمْ قَبَائِلَ لَتَعَارَفُوا وَأَنْتُمْ إِذَا كُنْتُمْ أَقْرَبَ إِلَى شَرِيفٍ تَفْتَخِرُونَ بِهِ فَخَلَقَكُمْ لِتَعْرِفُوا رَبَّكُمْ، فَإِذَا كُنْتُمْ أَقْرَبَ مِنْهُ وَهُوَ أَشْرَفُ الْمَوْجُودَاتِ كَانَ الْأَحَقُّ بِالِافْتِخَارِ هُنَاكَ مِنَ الْكُلِّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute