أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا شِيَةَ فِيها فَالْمُرَادُ أَنَّ صُفْرَتَهَا خَالِصَةٌ غَيْرُ مُمْتَزِجَةٍ بِسَائِرِ الْأَلْوَانِ لِأَنَّ الْبَقَرَةَ الصَّفْرَاءَ قَدْ تُوصَفُ بِذَلِكَ إِذَا حَصَلَتِ الصُّفْرَةُ فِي أَكْثَرِهَا فَأَرَادَ تَعَالَى أَنْ يُبَيِّنَ عُمُومَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لَا شِيَةَ فِيها رُوِيَ أَنَّهَا كَانَتْ صَفْرَاءَ الْأَظْلَافِ صَفْرَاءَ الْقُرُونِ، وَالْوَشْيُ خَلْطُ لَوْنٍ بِلَوْنٍ. ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ وَقَفُوا عِنْدَ هَذَا الْبَيَانِ وَاقْتَصَرُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا: الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ أَيِ الْآنِ بَانَتْ هَذِهِ الْبَقَرَةُ عَنْ غَيْرِهَا لِأَنَّهَا بَقَرَةٌ عَوَانٌ صَفْرَاءُ غَيْرُ مُذَلَّلَةٍ بِالْعَمَلِ، قَالَ الْقَاضِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ كُفْرٌ مِنْ قِبَلِهِمْ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَوَامِرِ أَنَّهَا مَا كَانَتْ حَقَّةً، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْآنَ ظَهَرَتْ حَقِيقَةُ مَا أَمَرْنَا بِهِ حَتَّى تَمَيَّزَتْ مِنْ غَيْرِهَا فَلَا يَكُونُ كُفْرًا.
/ أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ فَالْمَعْنَى فَذَبَحُوا الْبَقَرَةَ وَمَا كَادُوا يَذْبَحُونَهَا، وَهَاهُنَا بَحْثٌ: وَهُوَ أَنَّ النَّحْوِيِّينَ ذَكَرُوا «لِكَادَ» تَفْسِيرَيْنِ. الْأَوَّلُ: قَالُوا: إِنَّ نَفْيَهُ إِثْبَاتٌ وَإِثْبَاتَهُ نَفْيٌ. فَقَوْلُنَا: كَادَ يَفْعَلُ كَذَا مَعْنَاهُ قَرُبَ مِنْ أَنْ يَفْعَلَ لَكِنَّهُ مَا فَعَلَهُ وَقَوْلُنَا: مَا كَادَ يَفْعَلُ كَذَا مَعْنَاهُ قَرُبَ مِنْ أن يَفْعَلَ لَكِنَّهُ فَعَلَهُ. وَالثَّانِي:
وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَاهِرِ [الْجُرْجَانِيِّ] النَّحْوِيِّ أَنَّ كَادَ مَعْنَاهُ الْمُقَارَبَةُ فَقَوْلُنَا كَادَ يَفْعَلُ مَعْنَاهُ قَرُبَ مِنَ الْفِعْلِ وَقَوْلُنَا مَا كَادَ يَفْعَلُ مَعْنَاهُ مَا قَرُبَ مِنْهُ وَلِلْأَوَّلِينَ أَنْ يَحْتَجُّوا عَلَى فَسَادِ هَذَا الثَّانِي بِهَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَما كادُوا يَفْعَلُونَ مَعْنَاهُ وَمَا قَارَبُوا الْفِعْلَ وَنَفْيُ الْمُقَارَبَةِ مِنَ الْفِعْلِ يُنَاقِضُ إِثْبَاتَ وُقُوعِ الْفِعْلِ، فَلَوْ كَانَ كَادَ لِلْمُقَارَبَةِ لَزِمَ وُقُوعُ التَّنَاقُضِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَهَاهُنَا أَبْحَاثٌ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ شَيْخٌ صَالِحٌ لَهُ عِجْلَةٌ فَأَتَى بِهَا الْغَيْضَةَ وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي اسْتَوْدَعْتُكَهَا لِابْنِي حَتَّى تَكْبُرَ وَكَانَ بَرًّا بِوَالِدَيْهِ فَشَبَّتْ وَكَانَتْ مِنْ أَحْسَنِ الْبَقَرِ وَأَسْمَنِهَا فَتَسَاوَمُوهَا الْيَتِيمَ وَأُمَّهُ حَتَّى اشْتَرَوْهَا بِمَلْءِ مِسْكِهَا ذَهَبًا وَكَانَتِ الْبَقَرَةُ إِذْ ذَاكَ بِثَلَاثَةِ دَنَانِيرَ، وَكَانُوا طَلَبُوا الْبَقَرَةَ الْمَوْصُوفَةَ أَرْبَعِينَ سَنَةً «١» .
الْبَحْثُ الثَّانِي: رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ الْبَقَرَةَ تُذْبَحُ وَلَا تُنْحَرُ وَعَنْ عَطَاءٍ أَنَّهَا تُنْحَرُ، قَالَ: فَتَلَوْتُ الْآيَةَ عَلَيْهِ فَقَالَ: الذَّبْحُ وَالنَّحْرُ سَوَاءٌ، وَحُكِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَالزُّهْرِيِّ إِنْ شِئْتَ نَحَرْتَ وَإِنْ شِئْتَ ذَبَحْتَ وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِالذَّبْحِ وَأَنَّهُمْ فَعَلُوَا مَا يُسَمَّى ذَبْحًا وَالنَّحْرُ وَإِنْ أَجْزَأَ عَنِ الذَّبْحِ فَصُورَتُهُ مُخَالِفَةٌ لِصُورَةِ الذَّبْحِ، فَالظَّاهِرُ يَقْتَضِي مَا قُلْنَاهُ حَتَّى لَوْ نَحَرُوا وَلَا دَلِيلَ يَدُلُّ عَلَى قِيَامِهِ مَقَامَ الذَّبْحِ لَكَانَ لَا يُجْزِي.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: اخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ مَا كَادُوا يَذْبَحُونَ، فَعَنْ بَعْضِهِمْ لِأَجْلِ غَلَاءِ ثَمَنِهَا وَعَنْ آخَرِينَ أَنَّهُمْ خَافُوا الشُّهْرَةَ وَالْفَضِيحَةَ، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ، فَالْإِحْجَامُ عَنِ الْمَأْمُورِ بِهِ غَيْرُ جَائِزٍ، أَمَّا الْأَوَّلُ:
فَلِأَنَّهُمْ لَمَّا أُمِرُوا بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ الْمُعَيَّنَةِ، وَذَلِكَ الْفِعْلُ مَا كَانَ يَتِمُّ إِلَّا بِالثَّمَنِ الْكَثِيرِ وَجَبَ عَلَيْهِمْ أَدَاؤُهُ لِأَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ إِلَّا أَنْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِهِ، وَإِنَّمَا لَا يَلْزَمُ الْمُصَلِّيَ أَنْ يَتَطَهَّرَ بِالْمَاءِ إِذَا لَمْ يَجِدْهُ إِلَّا بِغَلَاءٍ مِنْ حَيْثُ الشَّرْعُ، وَلَوْلَاهُ لَلَزِمَ ذَلِكَ إِذَا وَجَبَ التَّطَهُّرُ مُطْلَقًا. وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ خَوْفُ الْفَضِيحَةِ فَذَاكَ لَا يَرْفَعُ التَّكْلِيفَ، فَإِنَّ الْقَوَدَ إِذَا كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ لَزِمَهُ تَسْلِيمُ النَّفْسِ مِنْ وَلِيِّ الدَّمِ إِذَا طَالَبَ وَرُبَّمَا لَزِمَهُ التعريف
(١) في هذا الخبر إبطال للحكمة في ذبح البقرة وضرب القتيل ببعضها ليظهر القاتل، لأن في الأربعين سنة تكون الجثة قد اتلفت وتغيرت وتلاشت والقوم قد فنى منهم ناس، وهذا إضعاف لمعجزة موسى إذ الشأن في المعجزة أن تظهر ثمرتها عن قرب. وإلا فإن كثيراً من حوادث القتل المشابهة لهذه المسألة تقع الآن في مصر ويكشف القناع عنها في الأيام اليسيرة، بل في الساعات.