للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَهَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ، وَلْنَذْكُرْهَا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِقْصَاءِ، فَنَقُولُ أَمَّا تَعَلُّقُهَا بِمَا قَبْلَهَا فَلِوُجُوهٍ أَحَدُهَا:

أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَذَكِّرْ [الذاريات: ٥٥] يَعْنِي أَقْصَى غَايَةِ التَّذْكِيرِ وَهُوَ أَنَّ الْخَلْقَ لَيْسَ إِلَّا لِلْعِبَادَةِ، فَالْمَقْصُودُ مِنْ إِيجَادِ الْإِنْسَانِ الْعِبَادَةُ فَذَكِّرْهُمْ بِهِ وَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ كُلَّ مَا عَدَاهُ تَضْيِيعٌ لِلزَّمَانِ الثَّانِي: هُوَ أَنَّا ذَكَرْنَا مِرَارًا أَنَّ شُغُلَ الْأَنْبِيَاءِ مُنْحَصِرٌ فِي أَمْرَيْنِ عِبَادَةِ اللَّهِ وَهِدَايَةِ الْخَلْقِ، فَلَمَّا قَالَ تَعَالَى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ [الذاريات: ٥٤] بَيَّنَ أَنَّ الْهِدَايَةَ قَدْ تَسْقُطُ عِنْدَ الْيَأْسِ وَعَدَمِ الْمُهْتَدِي، وَأَمَّا الْعِبَادَةُ فَهِيَ لَازِمَةٌ وَالْخَلْقُ الْمُطْلَقُ لَهَا وَلَيْسَ الْخَلْقُ الْمُطْلَقُ لِلْهِدَايَةِ، فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ إِذَا أَتَيْتَ بِالْعِبَادَةِ الَّتِي هِيَ أَصْلٌ إِذَا تَرَكْتَ الْهِدَايَةَ بَعْدَ بَذْلِ الْجُهْدِ فِيهَا الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ حَالَ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ التَّكْذِيبِ، ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ لِيُبَيِّنَ سُوءَ/ صَنِيعِهِمْ حَيْثُ تَرَكُوا عِبَادَةَ اللَّهِ فَمَا كَانَ خَلْقُهُمْ إِلَّا لِلْعِبَادَةِ، وَأَمَّا التَّفْسِيرُ فَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَلَائِكَةُ أَيْضًا مِنْ أَصْنَافِ الْمُكَلَّفِينَ وَلَمْ يَذْكُرْهُمُ اللَّهُ مَعَ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْكُبْرَى فِي إِيجَادِهِ لَهُمْ هِيَ الْعِبَادَةُ ولهذا قال: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الأنبياء: ٢٦] وقال تعالى: لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ [الأعراف: ٢٠٦] فَمَا الْحِكْمَةُ فِيهِ؟ نَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: قَدْ ذَكَرْنَا فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ أَنَّ تَعَلُّقَ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا بَيَانُ قُبْحِ مَا يَفْعَلُهُ الْكَفَرَةُ مِنْ تَرْكِ مَا خُلِقُوا لَهُ، وَهَذَا مُخْتَصٌّ بِالْجِنِّ وَالْإِنْسِ لِأَنَّ الْكُفْرَ فِي الْجِنِّ أَكْثَرُ، وَالْكَافِرُ مِنْهُمْ أَكْثَرُ مِنَ الْمُؤْمِنِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ قُبْحِهِمْ وَسُوءِ صَنِيعِهِمْ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى الْجِنِّ، فَلَمَّا قَالَ وَذَكِّرْهُمْ مَا يُذَكَّرُ بِهِ وَهُوَ كَوْنُ الْخَلْقِ لِلْعِبَادَةِ خَصَّ أُمَّتَهُ بِالذِّكْرِ أَيْ ذِكْرِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ الثَّالِثُ: أَنَّ عُبَّادَ الْأَصْنَامِ كَانُوا يَقُولُونَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَظِيمُ الشَّأْنِ خَلَقَ الْمَلَائِكَةَ وَجَعَلَهُمْ مُقَرَّبِينَ فَهُمْ يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَخَلَقَهُمْ لِعِبَادَتِهِ وَنَحْنُ لِنُزُولِ دَرَجَتِنَا لَا نَصْلُحُ لِعِبَادَةِ اللَّهِ فَنَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ وَهُمْ يَعْبُدُونَ اللَّهَ، فَقَالَ تَعَالَى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَلَائِكَةَ لِأَنَّ الْأَمْرَ فِيهِمْ كَانَ مُسَلَّمًا بَيْنَ الْقَوْمِ فَذَكَرَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ الرَّابِعُ: قِيلَ الْجِنُّ يَتَنَاوَلُ الْمَلَائِكَةَ لِأَنَّ الْجِنَّ أَصْلُهُ مِنَ الِاسْتِتَارِ وَهُمْ مُسْتَتِرُونَ عَنِ الْخَلْقِ، وَعَلَى هَذَا فَتَقْدِيمُ الْجِنِّ لِدُخُولِ الْمَلَائِكَةِ فِيهِمْ وكونهم أكثر عبادة وأخصلها الْخَامِسُ: قَالَ بَعْضُ النَّاسِ كُلَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ الْخَلْقَ كَانَ فِيهِ التَّقْدِيرُ فِي الْجِرْمِ وَالزَّمَانِ قَالَ تَعَالَى: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [الْفُرْقَانِ: ٥٩] وَقَالَ تَعَالَى: خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [فُصِّلَتْ: ٩] وَقَالَ: خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: ٧٥] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَمَا لَمْ يَكُنْ ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْأَمْرِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: ٨٢] وَقَالَ: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الْإِسْرَاءِ: ٨٥] وَقَالَ تَعَالَى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الْأَعْرَافِ: ٥٤] وَالْمَلَائِكَةُ كَالْأَرْوَاحِ مِنْ عَالَمِ الْأَمْرِ أَوَجَدَهُمْ مِنْ غَيْرِ مُرُورِ زَمَانٍ فَقَوْلُهُ وَما خَلَقْتُ إِشَارَةٌ إِلَى مَنْ هُوَ مِنْ عَالَمِ الْخَلْقِ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْمَلَائِكَةُ، وَهُوَ بَاطِلٌ لقوله تعالى: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [غافر: ٦٢] فَالْمَلَكُ مِنْ عَالَمِ الْخَلْقِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَقْدِيمُ الْجِنِّ عَلَى الْإِنْسِ لِأَيَّةِ حِكْمَةٍ؟ نَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: بَعْضُهَا مَرَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى الثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْعِبَادَةَ سِرِّيَّةٌ وَجَهْرِيَّةٌ، وَلِلسِّرِّيَّةِ فَضْلٌ عَلَى الْجَهْرِيَّةِ لَكِنَّ عِبَادَةَ الْجِنِّ سِرِّيَّةٌ لَا يَدْخُلُهَا الرِّيَاءُ الْعَظِيمُ، وَأَمَّا عِبَادَةُ الْإِنْسِ فَيَدْخُلُهَا الرِّيَاءُ فَإِنَّهُ قَدْ يَعْبُدُ اللَّهَ لِأَبْنَاءِ جِنْسِهِ، وَقَدْ يَعْبُدُ اللَّهَ لِيَسْتَخْبِرَ مِنَ الْجِنِّ أَوْ مَخَافَةً مِنْهُمْ وَلَا كَذَلِكَ الْجِنُّ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِعْلُ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ لِغَرَضٍ وَإِلَّا لَكَانَ بِالْغَرَضِ مُسْتَكْمِلًا وَهُوَ فِي نَفْسِهِ كَامِلٌ فَكَيْفَ يُفْهَمُ لِأَمْرِ اللَّهِ الْغَرَضُ وَالْعِلَّةُ؟ نَقُولُ الْمُعْتَزِلَةُ تَمَسَّكُوا بِهِ، وَقَالُوا أَفْعَالُ اللَّهِ تَعَالَى لِأَغْرَاضٍ وَبَالَغُوا فِي الْإِنْكَارِ عَلَى

<<  <  ج: ص:  >  >>