للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رَاكِبُ السَّفِينَةِ فَإِنَّهُ يَرَى الْجَبَلَ السَّاكِنَ مُتَحَرِّكًا، فَكَانَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ السَّمَاءُ تَمُورُ فِي رَأْيِ الْعَيْنِ بِسَبَبِ سَيْرِ الْجِبَالِ كَمَا يَرَى الْقَمَرَ سَائِرًا رَاكِبُ السَّفِينَةِ، وَالسَّمَاءُ إِذَا مَارَتْ كَذَلِكَ فَلَا يَبْقَى مَهْرَبٌ وَلَا مَفْزَعٌ لَا فِي السَّمَاءِ وَلَا فِي الْأَرْضِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا السَّبَبُ فِي مَوْرِهَا وَسَيْرِهَا؟ قُلْنَا قُدْرَةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا الْحِكْمَةُ فَالْإِيذَانُ وَالْإِعْلَامُ بِأَنْ لَا عَوْدَ إِلَى الدُّنْيَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَرْضَ وَالْجِبَالَ وَالسَّمَاءَ وَالنُّجُومَ كُلَّهَا لِعِمَارَةِ الدُّنْيَا وَالِانْتِفَاعِ لِبَنِي آدَمَ بِهَا، فَإِنْ لَمْ يَتَّفِقْ لَهُمْ عَوْدٌ لَمْ يَبْقَ فِيهَا نَفْعٌ فَأَعْدَمَهَا اللَّهُ تَعَالَى.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لَوْ قَالَ قَائِلٌ كُنْتَ وَعَدْتَ بِبَحْثٍ فِي الزَّمَانِ يَسْتَفِيدُ الْعَاقِلُ مِنْهُ فَوَائِدَ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى وَهَذَا مَوْضِعُهُ، فَإِنَّ الْفِعْلَ لَا يُضَافُ إِلَيْهِ شَيْءٌ غَيْرُ الزَّمَانِ فَيُقَالُ يَوْمَ يَخْرُجُ فُلَانٌ وَحِينَ يَدْخُلُ فُلَانٌ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ [الْمَائِدَةِ: ١١٩] وَقَالَ: يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ وَقَالَ: يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [التَّوْبَةِ: ٣٦] وَكَذَلِكَ يُضَافُ إِلَى الْجُمْلَةِ فَمَا السَّبَبُ فِي ذَلِكَ؟

فَنَقُولُ الزَّمَانُ ظَرْفُ الْأَفْعَالِ كَمَا أَنَّ الْمَكَانَ ظَرْفُ الْأَعْيَانِ، وَكَمَا أَنَّ جَوْهَرًا مِنَ الْجَوَاهِرِ لَا يُوجَدُ إِلَّا فِي مَكَانٍ، فَكَذَلِكَ عَرَضٌ مِنَ الْأَعْرَاضِ لَا يَتَجَدَّدُ إِلَّا فِي زَمَانٍ، وَفِيهِمَا تَحَيُّرُ خَلْقٍ عَظِيمٍ، فَقَالُوا إِنْ كَانَ الْمَكَانُ جَوْهَرًا فَلَهُ مَكَانٌ آخَرُ وَيَتَسَلْسَلُ الْأَمْرُ، وَإِنْ كَانَ عَرَضًا فَالْعَرَضُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ جَوْهَرٍ، وَالْجَوْهَرُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَكَانٍ فَيَدُورُ الْأَمْرُ أَوْ يَتَسَلْسَلُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَوْهَرًا وَلَا عَرَضًا، فَالْجَوْهَرُ يَكُونُ حَاصِلًا فِيمَا لَا وُجُودَ لَهُ أَوْ فِيمَا لَا إِشَارَةَ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَقَالُوا فِي الزَّمَانِ إِنْ كَانَ الزَّمَانُ غَيْرَ مُتَجَدِّدٍ فَيَكُونُ كَالْأُمُورِ الْمُسْتَمِرَّةِ فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ الْمُضِيُّ وَالِاسْتِقْبَالُ، وَإِنْ كَانَ مُتَجَدِّدًا وَكُلُّ مُتَجَدِّدٍ فَهُوَ فِي زَمَانٍ، فَلِلزَّمَانِ زَمَانٌ آخَرُ فَيَتَسَلْسَلُ الْأَمْرُ، ثُمَّ إِنَّ الْفَلَاسِفَةَ الْتَزَمُوا التَّسَلْسُلَ فِي الْأَزْمِنَةِ، وَوَقَعُوا بِسَبَبِ هَذَا فِي الْقَوْلِ بِقِدَمِ الْعَالَمِ وَلَمْ يَلْتَزِمُوا التَّسَلْسُلَ فِي الْأَمْكِنَةِ وَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا مِنْ غَيْرِ فَارِقٍ وَقَوْمٌ الْتَزَمُوا التَّسَلْسُلَ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَقَالُوا بِالْقِدَمِ وَأَزْمَانٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَبِالِامْتِدَادِ وَأَبْعَادٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَهُمْ وَإِنْ خَالَفُونَا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ جَمِيعًا وَالْفَلَاسِفَةُ وَافَقُونَا فِي إِحْدَاهُمَا دُونَ/ الْأُخْرَى لَكِنَّهُمْ سَلَكُوا جَادَّةَ الْوَهْمِ وَلَمْ يَتْرُكُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ سَبِيلَ الِالْتِزَامِ فِي الْأَزْمَانِ، فَإِنْ قِيلَ فَالْمُتَجَدِّدُ الْأَوَّلُ قَبْلَهُ مَاذَا؟ نَقُولُ لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ، فَإِنْ قِيلَ فَعَدَمُهُ قَبْلَهُ أَوْ قَبْلَهُ عَدَمُهُ؟ نَقُولُ قَوْلُنَا لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ أَعَمُّ مِنْ قَوْلِكَ قَبْلَهُ عَدَمُهُ، لِأَنَّا إِذَا قُلْنَا لَيْسَ قَبْلَ آدَمَ حَيَوَانٌ بِأَلْفِ رَأْسٍ، صَدَقْنَا وَلَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ صِدْقَ قَوْلِنَا آدَمُ قَبْلَ حَيَوَانٍ بِأَلْفِ رَأْسٍ أَوْ حَيَوَانٌ بِأَلْفِ رَأْسٍ بَعْدَ آدَمَ، لِانْتِفَاءِ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ أَوَّلًا وَآخِرًا وَعَدَمِ دُخُولِهِ فِي الْوُجُودِ أَزَلًا وَأَبَدًا، فَكَذَلِكَ مَا قُلْنَا، فَإِنْ قِيلَ هَذَا لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَيْءٌ مَوْجُودٌ وَهُوَ قَبْلَ الْعَالَمِ، نَقُولُ قَوْلُنَا لَيْسَ قَبْلَ الْمُتَجَدِّدِ الْأَوَّلِ شَيْءٌ مَعْنَاهُ لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ بِالزَّمَانِ، وَأَمَّا اللَّهُ تَعَالَى فَلَيْسَ قَبْلَهُ بِالزَّمَانِ إِذْ كَانَ اللَّهُ وَلَا زَمَانَ، وَالزَّمَانُ وُجِدَ مَعَ الْمُتَجَدِّدِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ قِيلَ فَمَا مَعْنَى وُجُودِ اللَّهِ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ غَيْرَهُ؟ نَقُولُ مَعْنَاهُ كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرَهُ لَا يُقَالُ مَا ذَكَرْتُمْ إِثْبَاتُ شَيْءٍ بِشَيْءٍ وَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ الشَّيْءُ إِلَّا بِمَا تَرُومُونَ إِثْبَاتَهُ، فَإِنَّ بِدَايَةَ الزَّمَانِ غَرَضُكُمْ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُتَجَدِّدِ الْأَوَّلِ وَالنِّزَاعُ فِي الْمُتَجَدِّدِ، فَإِنَّ عِنْدَ الْخَصْمِ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ مُتَجَدِّدٌ أَوَّلٌ بَلْ قَبْلَ كُلِّ مُتَجَدِّدٍ، لِأَنَّا نَقُولُ نَحْنُ مَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ دَلِيلًا، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهُ بَيَانًا لِعَدَمِ الْإِلْزَامِ، وَأَنَّهُ لَا يَرِدُ عَلَيْنَا شَيْءٌ إِذَا قُلْنَا بِالْحُدُوثِ وَنِهَايَةِ الأبعاد واللزوم وَالْإِلْزَامِ، فَيَسْلَمُ الْكَلَامُ الْأَوَّلُ، ثُمَّ يَلْزَمُ وَيَقُولُ: أَلَسْتَ تَقُولُ إِنَّ لَنَا مُتَجَدِّدًا أَوَّلًا فَكَذَلِكَ قُلْ لَهُ عَدَمٌ، فَنَقُولُ لَا بَلْ لَيْسَ قَبْلَهُ أَمْرٌ بِالزَّمَانِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ نَفْيًا عَامًّا، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لِانْتِفَاءِ الزَّمَانِ، كَمَا ذَكَرْنَا في

<<  <  ج: ص:  >  >>