الْخَلْقِ لَا شَفَاعَةَ لَهُمْ إِلَّا بِالْإِذْنِ قَالُوا نَحْنُ لَا نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ لِأَنَّهَا جَمَادَاتٌ وَإِنَّمَا نَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ بِعِبَادَتِهَا فَإِنَّهَا عَلَى صُوَرِهَا وَنَنْصِبُهَا بين أيدينا ليذكرنا الشاهد والغائب، فَنُعَظِّمُ الْمَلَكَ الَّذِي ثَبَتَ أَنَّهُ مُقَرَّبٌ عَظِيمُ الشَّأْنِ رَفِيعُ الْمَكَانِ فَقَالَ تَعَالَى رَدًّا عَلَيْهِمْ كَيْفَ تُعَظِّمُونَهُمْ وَأَنْتُمْ تُسَمُّونَهُمْ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى، ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ مُسْتَنَدَهُمْ فِي ذَلِكَ وَهُوَ لَفْظُ الْمَلَائِكَةِ، وَلَمْ يَقُلْ إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى بَلْ قَالَ: لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ فَإِنَّهُمُ اغْتَرُّوا بِالتَّاءِ وَاغْتِرَارُهُمْ بَاطِلٌ لِأَنَّ التَّاءَ تَجِيءُ لِمَعَانٍ غَيْرِ التَّأْنِيثِ الْحَقِيقِيِّ وَالْبِنْتُ لَا تُطْلَقُ إِلَّا عَلَى الْمُؤَنَّثِ الْحَقِيقِيِّ بِالْإِطْلَاقِ وَالتَّاءُ فِيهَا لِتَأْكِيدِ مَعْنَى الْجَمْعِ كَمَا فِي صَيَاقِلَةٍ وَهِيَ تُشْبِهُ تِلْكَ التَّاءَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ فِي الْمَشْهُورِ جَمْعُ مَلَكٍ، وَالْمَلَكُ اخْتِصَارٌ مِنَ الْمَلَاكِ بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ، وَالْمَلْأَكُ قَلْبُ الْمَأْلَكِ مِنَ الْأَلُوكَةِ وَهِيَ الرِّسَالَةُ، فَالْمَلَائِكَةُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَفَاعِلَةٌ، وَالْأَصْلُ مَفَاعِلُ وَرُدَّ إِلَى مَلَائِكَةٍ فِي الْجَمْعِ فَهِيَ تُشْبِهُ فَعَائِلَ وَفَعَائِلَةَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ فَعَائِلُ جَمْعُ مَلِيكِيٍّ/ مَنْسُوبٌ إِلَى الْمَلِيكِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [الْقَمَرِ: ٥٥] فِي وَعْدِ الْمُؤْمِنِ، وَقَالَ فِي وصف الملائكة الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ [الأعراف: ٢٠٦] وَقَالَ أَيْضًا فِي الْوَعْدِ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى [ص: ٤٠] وقال في وصف الملائكة لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
[النِّسَاءِ: ١٧٢] فَهُمْ إِذَنْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ اخْتَصَّهُمُ اللَّهُ بِمَزِيدِ قُرْبِهِ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النحل: ٥٠] كَأَمْرِ الْمُلُوكِ وَالْمُسْتَخْدَمِينَ عِنْدَ السَّلَاطِينِ الْوَاقِفِينَ بِأَبْوَابِهِمْ مُنْتَظِرِينَ لِوُرُودِ أَمْرٍ عَلَيْهِمْ، فَهُمْ مُنْتَسِبُونَ إِلَى الْمَلِيكِ الْمُقْتَدِرِ فِي الْحَالِ فَهُمْ مَلِيكِيُّونَ وَمَلَائِكَةٌ فَالتَّاءُ لِلنِّسْبَةِ فِي الْجَمْعِ كَمَا فِي الصَّيَارِفَةِ وَالْبَيَاطِرَةِ.
فَإِنْ قِيلَ هَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ أَحَدًا لَمْ يُسْتَعْمَلْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ مَلِيكِيٌّ كَمَا اسْتُعْمِلَ صَيْرَفِيٌّ وَالثَّانِي:
أَنَّ الْإِنْسَانَ عند ما يَصِيرُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ جِنْسٌ غَيْرُ الْآدَمِيِّ الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ فَعَائِلَةَ فِي جَمْعِ فَعِيلِيَّ لَمْ يُسْمَعْ وَإِنَّمَا يُقَالُ فَعِيلَةٌ كَمَا يُقَالُ جَاءَ بِالنَّمِيمَةِ وَالْحَقِيبَةِ الرَّابِعُ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لِمَا جُمِعَ مَلَكٌ؟ نَقُولُ:
الْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَمَّا عَدَمُ اسْتِعْمَالِ وَاحِدِهِ فَمُسَلَّمٌ وَهُوَ لِسَبَبٍ وَهُوَ أَنَّ الْمَلِكَ كُلَّمَا كَانَ أَعْظَمَ كَانَ حُكْمُهُ وَخَدَمُهُ وَحَشَمُهُ أَكْثَرَ، فَإِذَا وُصِفَ بِالْعَظَمَةِ وُصِفَ بِالْجَمْعِ فَيُقَالُ صَاحِبُ الْعَسْكَرِ الْكَثِيرِ وَلَا يُوصَفُ بِوَاحِدٍ وَصْفَ تَعْظِيمٍ، وَأَمَّا ذَلِكَ الْوَاحِدُ فَإِنْ نُسِبَ إِلَى الْمَلِيكِ عُيِّنَ لِلْخَبَرِ بِأَنْ يُقَالَ هَذَا مَلِيكِيٌّ وذلك عند ما تُعْرَفُ عَيْنُهُ فَتَجْعَلُهُ مُبْتَدَأً وَتُخْبِرُ بِالْمَلِيكِيِّ عَنْهُ، وَالْمَلَائِكَةُ لَمْ يُعْرَفُوا بِأَعْيَانِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ كَجِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، وَحِينَئِذٍ لَا فَائِدَةَ فِي قَوْلِنَا جِبْرِيلُ مَلِيكِيٌّ، لِأَنَّ مَنْ عَرَّفَ الْخَبَرَ وَلَا يُصَاغُ الْحَمْلُ إِلَّا لِبَيَانِ ثُبُوتِ الْخَبَرِ لِلْمُبْتَدَأِ فَلَا يُقَالُ لِلْإِنْسَانِ حَيَوَانٌ أَوْ جِسْمٌ لِأَنَّهُ إِيضَاحُ وَاضِحٍ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُسْتَعْمَلَ ذَلِكَ فِي ضَرْبِ مِثَالٍ أَوْ فِي صُورَةٍ نَادِرَةٍ لِغَرَضٍ، وَأَمَّا أَنْ يُنْسَبَ إِلَى الْمَلِيكِ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ فَلَا، لِأَنَّ الْعَظَمَةَ فِي أَنْ يَقُولَ وَاحِدٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَنَبَّهَ عَلَى كَثْرَةِ الْمُقَرَّبِينَ إِلَيْهِ كَمَا تَقُولُ وَاحِدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْمَلِكِ وَلَا تَقُولُ صَاحِبُ الْمَلِكِ، فَإِذَا أَرَدْتَ التَّعْظِيمَ الْبَالِغَ فَعِنْدَ الْوَاحِدِ اسْتَعْمَلَ اسْمَ الْمَلَكِ غَيْرَ مَنْسُوبٍ بَلْ هُوَ مَوْضُوعٌ لِشِدَّتِهِ وَقُوَّتِهِ كَمَا قال تعالى: ذُو مِرَّةٍ [النجم: ٦] وذِي قُوَّةٍ [التكوير: ٢٠] فقال: شَدِيدُ الْقُوى [النجم: ٥] وم ل ك تَدُلُّ عَلَى الشِّدَّةِ فِي تَقَالِيبِهَا عَلَى مَا عُرِفَ وَعِنْدَ الْجَمْعِ اسْتَعْمَلَ الْمَلَائِكَةَ لِلتَّعْظِيمِ، كَمَا قَالَهُ تَعَالَى: وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [الْمُدَّثِّرِ: ٣١] .
الْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: نَقُولُ قَدْ يَكُونُ الِاسْمُ فِي الْأَوَّلِ لِوَصْفٍ يَخْتَصُّ بِبَعْضِ مَنْ يَتَّصِفُ بِهِ وَغَيْرُهُ لَوْ صَارَ مُتَّصِفًا بِذَلِكَ الْوَصْفِ لَا يُسَمَّى بِذَلِكَ الِاسْمِ كَالدَّابَّةِ فَاعِلَةٌ مِنْ دَبَّ، وَلَا يُقَالُ لِلْمَرْأَةِ ذَاتِ الدَّبِّ دَابَّةٌ اسْمًا وَرُبَّمَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute