للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ.

الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ أَنَّهُ خِطَابٌ مَعَ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا أَلْيَقُ بِالظَّاهِرِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ فِي الدُّعَاءِ فَقَدْ كَانَ فِي الصَّحَابَةِ مَنْ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَيُظْهِرُ لَهُمُ الدَّلَائِلَ وَيُنَبِّهَهُمْ عَلَيْهَا، فَصَحَّ أَنْ يَقُولَ تَعَالَى: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَيُرِيدُ بِهِ الرَّسُولَ وَمَنْ هَذَا حَالُهُ مِنْ أَصْحَابِهِ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا فَلَا وَجْهَ لِتَرْكِ الظَّاهِرِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ هُمُ الْيَهُودُ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَصِحُّ فِيهِمُ الطَّمَعُ فِي أَنْ يُؤْمِنُوا وَخِلَافُهُ لِأَنَّ الطَّمَعَ إِنَّمَا يَصِحُّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا فِي الْوَاقِعِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرُوا فِي سَبَبِ الِاسْتِبْعَادِ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ مَعَ أَنَّهُمْ مَا آمَنُوا بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ هُوَ السَّبَبَ فِي أَنَّ اللَّهَ خَلَّصَهُمْ مِنَ الذُّلِّ وَفَضَّلَهُمْ عَلَى الْكُلِّ، وَمَعَ ظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ الْمُتَوَالِيَةِ عَلَى يَدِهِ وَظُهُورِ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ عَلَى الْمُتَمَرِّدِينَ. الثَّانِي: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا وَيُظْهِرُوا التَّصْدِيقَ وَمَنْ عَلِمَ مِنْهُمُ الْحَقَّ لَمْ يَعْتَرِفْ بِذَلِكَ، بَلْ غَيَّرَهُ وَبَدَّلَهُ. الثَّالِثُ: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنَ لَكُمْ هَؤُلَاءِ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَكَيْفَ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ أَسْلَافِهِمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ حَقٌّ ثُمَّ يُعَانِدُونَهُ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْقَوْمُ مُكَلَّفُونَ بِأَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ. فَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ [العنكبوت: ٢٦] الْجَوَابُ: أَنَّهُ يَكُونُ إِقْرَارًا لَهُمْ بِمَا دُعُوا إِلَيْهِ وَلَوْ كَانَ الْإِيمَانُ لِلَّهِ كَمَا قَالَ تعالى:

فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ لَمَّا أَقَرَّ بِنُبُوَّتِهِ وَبِتَصْدِيقِهِ، وَيَجُوزُ أَنَّ يُرَادَ بِذَلِكَ أَنْ يُؤْمِنُوا لِأَجْلِكُمْ وَلِأَجْلِ تَشَدُّدِكُمْ فِي دُعَائِهِمْ إِلَيْهِ فَيَكُونُ هَذَا مَعْنَى الْإِضَافَةِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ الْفَرِيقِ، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِالْفَرِيقِ مَنْ كَانَ فِي أَيَّامِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ هَذَا الْفَرِيقَ بِأَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ. وَالَّذِينَ سَمِعُوا كَلَامَ الله هم أَهْلُ الْمِيقَاتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلِ الْمُرَادُ بِالْفَرِيقِ مَنْ كَانَ فِي زَمَنِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَهَذَا أَقْرَبُ لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ رَاجِعٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ وَهُمُ الَّذِينَ عَنَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ:

أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الَّذِينَ تَعَلَّقَ الطَّمَعُ بِإِيمَانِهِمْ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. فَإِنْ قِيلَ: الَّذِينَ سَمِعُوا كَلَامَ اللَّهِ هُمُ الَّذِينَ حَضَرُوا الْمِيقَاتَ، قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ بَلْ قَدْ يَجُوزُ فِيمَنْ سَمِعَ التَّوْرَاةَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ كَمَا يُقَالُ لِأَحَدِنَا سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ إِذَا قُرِئَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ فَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْقَفَّالُ: التَّحْرِيفُ التَّغْيِيرُ وَالتَّبْدِيلُ وَأَصْلُهُ مِنَ الِانْحِرَافِ عَنِ الشَّيْءِ وَالتَّحْرِيفِ عَنْهُ، قَالَ تَعَالَى: إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ [الْأَنْفَالِ: ١٦] وَالتَّحْرِيفُ هُوَ إِمَالَةُ الشَّيْءِ عَنْ حَقِّهِ، يُقَالُ:

قَلَمٌ مُحَرَّفٌ إِذَا كَانَ رَأْسُهُ قَطُّ مَائِلًا غَيْرَ مُسْتَقِيمٍ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَاضِي: إِنَّ التَّحْرِيفَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي اللَّفْظِ أَوْ فِي الْمَعْنَى، وَحَمْلُ التَّحْرِيفِ عَلَى تَغْيِيرِ اللَّفْظِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى تَغْيِيرِ الْمَعْنَى، لِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى إِذَا كَانَ بَاقِيًا عَلَى جِهَتِهِ وَغَيَّرُوا تَأْوِيلَهُ فَإِنَّمَا يَكُونُونَ مُغَيِّرِينَ لِمَعْنَاهُ لَا لِنَفْسِ الْكَلَامِ الْمَسْمُوعِ، فَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى ذَلِكَ كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ أَنَّهُمْ زَادُوا فِيهِ وَنَقَصُوا فَهُوَ أَوْلَى، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ فَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى تَغْيِيرِ تَأْوِيلِهِ وَإِنْ كَانَ التَّنْزِيلُ ثَابِتًا،