لِلْأَوَّلِ فَلَيْسَ فِي كَلَامِهِ ذِكْرُ نِعْمَتَيْنِ مَعًا بِخِلَافِ مَا إِذَا ذُكِرَ بِحَرْفٍ، فَإِنْ قِيلَ: إِنْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْتَ فَلَوْ ذَكَرَ النِّعَمَ الْأُوَلَ بِالْوَاوِ ثُمَّ عِنْدَ تَطْوِيلِ الْكَلَامِ فِي الْآخِرِ سَرَدَهَا سَرْدًا، هَلْ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الْبَلَاغَةِ؟ وَوُرُودُ كَلَامِهِ تَعَالَى عَلَيْهِ كَفَاهُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَبْلَغُ، وَلَهُ دَلِيلٌ تَفْصِيلِيٌّ ظَاهِرٌ يُبَيَّنُ بِبَحْثٍ وَهُوَ أَنَّ الْكَلَامَ قَدْ يَشْرَعُ فِيهِ الْمُتَكَلِّمُ أَوَّلًا عَلَى قَصْدِ الِاخْتِصَارِ فَيَقْتَضِي الْحَالُ التَّطْوِيلَ، إِمَّا لِسَائِلٍ يُكْثِرُ السُّؤَالَ، وَإِمَّا لِطَالِبٍ يَطْلُبُ الزِّيَادَةَ لِلُطْفِ كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ، وَإِمَّا لِغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَسْبَابِ وَقَدْ يَشْرَعُ عَلَى قَصْدِ الْإِطْنَابِ وَالتَّفْصِيلِ، فَيَعْرِضُ مَا يَقْتَضِي الِاقْتِصَارَ عَلَى الْمَقْصُودِ مِنْ شُغْلِ السَّامِعِ أَوِ الْمُتَكَلِّمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَ فِي كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ، نَقُولُ: كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى فَوَائِدُهُ لِعِبَادِهِ لَا لَهُ فَفِي هَذِهِ السُّورَةِ ابْتَدَأَ الْأَمْرَ بِالْإِشَارَةِ إِلَى بَيَانِ أَتَمِّ النِّعَمِ إِذْ هُوَ الْمَقْصُودُ، فَأَتَى بِمَا يَخْتَصُّ بِالْكَثْرَةِ، ثُمَّ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ بِكَامِلِ الْعِلْمِ يَعْلَمُ مُرَادَ الْمُتَكَلِّمِ إِذَا كَانَ الْكَلَامُ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ الْكَلَامُ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى، فَبَدَأَ اللَّهُ بِهِ عَلَى الْفَائِدَةِ الْأُخْرَى وَإِذْهَابُ تَوَهُّمِ الْبَدَلِ وَالتَّفْسِيرِ وَالنَّعْيِ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا نِعْمَةٌ كَامِلَةٌ، فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَا الْحِكْمَةُ فِي تَخْصِيصِ الْعَطْفِ بِهَذَا الْكَلَامِ وَالِابْتِدَاءِ بِهِ لَا بِمَا قَبْلَهُ وَلَا بِمَا بَعْدَهُ؟ قُلْنَا: لِيَكُونَ النَّوْعَانِ عَلَى السَّوَاءِ فَذَكَرَ الثَّمَانِيَةَ مِنَ النِّعَمِ كَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَخَلْقِ الْإِنْسَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ أَرْبَعًا مِنْهَا بِغَيْرِ وَاوٍ وَأَرْبَعًا بِوَاوٍ، / وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ [الرَّحْمَنِ: ١١] وَقَوْلُهُ:
وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ [الرَّحْمَنِ: ١٢] فَلِبَيَانِ نِعْمَةِ الْأَرْضِ عَلَى التَّفْصِيلِ ثُمَّ فِي اخْتِيَارِ الثَّمَانِيَةِ لَطِيفَةٌ، وَهِيَ أَنَّ السَّبْعَةَ عَدَدٌ كَامِلٌ وَالثَّمَانِيَةَ هِيَ السَّبْعَةُ مَعَ الزِّيَادَةِ فَيَكُونُ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ نِعَمَ اللَّهِ خَارِجَةٌ عَنْ حَدِّ التَّعْدِيدِ لِمَا أَنَّ الزَّائِدَ عَلَى الْكَمَالِ لَا يَكُونُ مُعَيَّنًا مُبَيَّنًا، فَذَكَرَ الثَّمَانِيَةَ مِنْهَا إِشَارَةً إِلَى بَيَانِ الزِّيَادَةِ عَلَى حَدِّ الْعَدَدِ لَا لِبَيَانِ الِانْحِصَارِ فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: النَّجْمُ مَاذَا؟ نَقُولُ: فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: النَّبَاتُ الَّذِي لَا سَاقَ لَهُ وَالثَّانِي: نَجْمُ السَّمَاءِ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِأَنَّهُ ذَكَرَهُ مَعَ الشَّجَرِ فِي مُقَابَلَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ ذَكَرَ أَرْضَيْنِ فِي مُقَابَلَةِ سَمَاوَيْنِ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ:
يَسْجُدانِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ لَيْسَ نَجْمَ السَّمَاءِ لِأَنَّ مَنْ فَسَّرَ بِهِ قَالَ: يَسْجُدُ بِالْغُرُوبِ، وَعَلَى هَذَا فَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ أَيْضًا كَذَلِكَ يَغْرُبَانِ، فَلَا يَبْقَى لِلِاخْتِصَاصِ فَائِدَةٌ، وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا: هُمَا أَرْضَانِ فَنَقُولُ: يَسْجُدانِ بِمَعْنَى ظِلَالِهِمَا تَسْجُدُ فَيَخْتَصُّ السُّجُودُ بِهِمَا دُونَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَفِي سُجُودِهِمَا وُجُوهٌ أَحَدُهَا: مَا ذَكَرْنَا مِنْ سُجُودِ الظِّلَالِ ثَانِيهَا: خُضُوعُهُمَا لِلَّهِ تَعَالَى وَخُرُوجُهُمَا مِنَ الْأَرْضِ وَدَوَامُهُمَا وَثَبَاتُهُمَا عَلَيْهَا بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ بِحَرَكَةٍ مُسْتَدِيرَةٍ وَالنَّجْمَ بِحَرَكَةٍ مُسْتَقِيمَةٍ إِلَى فَوْقُ، فَشَبَّهَ النَّبَاتَ فِي مَكَانِهَا بِالسُّجُودِ لِأَنَّ السَّاجِدَ يَثْبُتُ. ثَالِثُهَا: حَقِيقَةُ السُّجُودِ تُوجَدُ مِنْهُمَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَرْئِيَّةً كما يسمح كُلٌّ مِنْهُمَا وَإِنْ لَمْ يُفْقَهْ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الْإِسْرَاءِ: ٤٤] ، رَابِعُهَا: السُّجُودُ وَضْعُ الْجَبْهَةِ أَوْ مَقَادِيمِ الرَّأْسِ عَلَى الأرض والنجم والشجر في الحقيقة رؤوسهما عَلَى الْأَرْضِ وَأَرْجُلُهُمَا فِي الْهَوَاءِ، لِأَنَّ الرَّأْسَ من الحيوان ما به شربه واغذاؤه، وَلِلنَّجْمِ وَالشَّجَرِ اغْتَذَاؤُهُمَا وَشُرْبُهُمَا بِأَجْذَالِهِمَا وَلِأَنَّ الرَّأْسَ لَا تَبْقَى بِدُونِهِ الْحَيَاةُ وَالشَّجَرُ وَالنَّجْمُ لَا يَبْقَى شَيْءٌ مِنْهُمَا ثَابِتًا غَضًّا عِنْدَ وُقُوعِ الْخَلَلِ فِي أُصُولِهِمَا، وَيَبْقَى عِنْدَ قَطْعِ فُرُوعِهِمَا وأعاليهما، وإنما يقال:
للفروع رؤوس الْأَشْجَارِ، لِأَنَّ الرَّأْسَ فِي الْإِنْسَانِ هُوَ مَا يلي جهة فوق فقيل لأعالي الشجر رؤوس، إذا علمت هذا فالنجم والشجر رؤوسهما عَلَى الْأَرْضِ دَائِمًا، فَهُوَ سُجُودُهُمَا بِالشَّبَهِ لَا بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي تَقْدِيمِ النَّجْمِ عَلَى الشَّجَرِ مُوَازَنَةٌ لَفْظِيَّةٌ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَأَمْرٌ مَعْنَوِيٌّ، وَهُوَ أَنَّ النَّجْمَ فِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute