للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَهُوَ مِثْلُ الْأَوَّلِ مَعْنًى، أَيْ لَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُهُ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ وَلَكِنْ يَأْتِي وَقْتٌ قَدَّرَ اللَّهُ فِيهِ فِعْلَهُ فَيَبْدُو فِيهِ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ يُنْسَبَانِ إِلَى الْحَسَنِ بْنِ الْفَضْلِ أَجَابَ بِهِمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي الليل ويخرج الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيَشْفِي سَقِيمًا وَيُمْرِضُ سَلِيمًا، وَيُعِزُّ ذَلِيلًا وَيُذِلُّ عَزِيزًا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ

قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «يَغْفِرُ ذَنْبًا وَيُفَرِّجُ كَرْبًا»

وَهُوَ أَحْسَنُ وَأَبْلَغُ حَيْثُ بَيَّنَ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا يَتَعَلَّقُ بِالْآخِرَةِ وَالْآخَرُ بِالدُّنْيَا، وَقَدَّمَ الْأُخْرَوِيَّ عَلَى الدُّنْيَوِيِّ وَأَمَّا الْمَعْقُولَةُ: فَهِيَ أَنْ نَقُولَ هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْخَلْقِ، وَمَنْ يَسْأَلُهُ مِنْ أَهْلِ السموات وَالْأَرْضِ لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ بِمَا أَرَادَ وَقَضَى وَأَبْرَمَ فِيهِ حُكْمَهُ وَأَمْضَى، غَيْرَ أَنَّ مَا حَكَمَهُ يَظْهَرُ كُلَّ يَوْمٍ، فَنَقُولُ: أَبْرَمَ اللَّهُ الْيَوْمَ رِزْقَ فُلَانٍ وَلَمْ يَرْزُقْهُ أَمْسِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُحِيطَ عِلْمُ خَلْقِهِ بِمَا أَحَاطَ بِهِ عِلْمُهُ، فَتَسْأَلُهُ الْمَلَائِكَةُ كُلَّ يَوْمٍ إِنَّكَ يَا إِلَهَنَا فِي هَذَا الْيَوْمِ فِي أَيِّ شَأْنٍ فِي نَظَرِنَا وَعِلْمِنَا الثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْفِعْلَ يَتَحَقَّقُ بِأَمْرَيْنِ مِنْ جَانِبِ الْفَاعِلِ بِأَمْرٍ خَاصٍّ، وَمِنْ جَانِبِ الْمَفْعُولِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، وَلَا يُمْكِنُ غَيْرُهُ وَعَلَى وَجْهٍ يَخْتَارُهُ الْفَاعِلُ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِثَالُ الْأَوَّلِ: تَحْرِيكُ السَّاكِنِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِإِزَالَةِ السُّكُونِ/ عَنْهُ وَالْإِتْيَانِ بِالْحَرَكَةِ عَقِيبَهُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَمِثَالُ الثَّانِي: تَسْكِينُ السَّاكِنُ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ مَعَ إِبْقَاءِ السُّكُونِ فِيهِ وَمَعَ إِزَالَتِهِ عَقِيبَهُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ أَوْ مَعَ فَصْلٍ، إِذْ يُمْكِنُ أَنْ يُزِيلَ عَنْهُ السُّكُونَ وَلَا يُحَرِّكُهُ مَعَ بَقَاءِ الْجِسْمِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَاللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْأَجْسَامَ الْكَثِيرَةَ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ وَخَلَقَ فِيهَا صِفَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَإِيجَادُهَا فِيهِ لَا فِي زَمَانٍ آخَرَ بَعْدَ ذَلِكَ الزَّمَانِ فَمَنْ خَلَقَهُ فَقِيرًا فِي زَمَانٍ لَمْ يُمْكِنْ خَلْقُهُ غَنِيًّا فِي عَيْنِ ذَلِكَ الزَّمَانِ مَعَ خَلْقِهِ فَقِيرًا فِيهِ وَهَذَا ظَاهِرٌ، وَالَّذِي يَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ يَلْزَمُ مِنْهُ الْعَجْزُ أَوْ يُتَوَهَّمُ فَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلِ الْعَجْزُ فِي خِلَافِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ خَلَقَهُ فَقِيرًا فِي زَمَانٍ يُرِيدُ كَوْنَهُ غَنِيًّا لَمَا وَقَعَ الْغِنَى فِيهِ مَعَ أَنَّهُ أَرَادَهُ، فَيَلْزَمُ الْعَجْزُ مِنْ خِلَافِ مَا قُلْنَا:

لَا فِيمَا قُلْنَا، فَإِذَنْ كُلُّ زَمَانٍ هُوَ غَيْرُ الزَّمَانِ الْآخَرِ فَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِ الْمُفَسِّرِينَ: أَغْنَى فَقِيرًا وَأَفْقَرَ غَنِيًّا، وَأَعَزَّ ذَلِيلًا وَأَذَلَّ عَزِيزًا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَضْدَادِ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الضِّدَّيْنِ لَيْسَا مُنْحَصِرَيْنِ فِي مُخْتَلِفَيْنِ بَلِ الْمِثْلَانِ فِي حُكْمِهِمَا فَإِنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ، فَمَنْ وُجِدَ فِيهِ حَرَكَةٌ إِلَى مَكَانٍ فِي زَمَانٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُوجَدَ فِيهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ حَرَكَةٌ أُخْرَى أَيْضًا إِلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَلَيْسَ شَأْنُ اللَّهِ مُقْتَصِرًا عَلَى إِفْقَارِ غَنِيٍّ أَوْ إِغْنَاءِ فَقِيرٍ فِي يَوْمِنَا دُونَ إِفْقَارِهِ أَوْ إِغْنَائِهِ أَمْسِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْمَعَ فِي زَيْدٍ إِغْنَاءً هُوَ أَمْسِي مَعَ إِغَنَاءٍ هُوَ يَوْمِي، فَالْغِنَى الْمُسْتَمِرُّ لِلْغَنِيِّ فِي نَظَرِنَا فِي الْأَمْرِ مُتَبَدِّلُ الْحَالِ، فَهُوَ أَيْضًا مِنْ شَأْنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُوصَفُ بِكَوْنِهِ: لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الشَّأْنَ الْوَاحِدَ لَا يَصِيرُ مَانِعًا لَهُ تَعَالَى عَنْ شَأْنٍ آخَرَ كَمَا أَنَّهُ يَكُونُ مَانِعًا لَنَا، مِثَالُهُ: وَاحِدٌ مِنَّا إِذَا أَرَادَ تَسْوِيدَ جِسْمٍ بِصَبْغَةٍ يُسَخِّنُهُ بِالنَّارِ أَوْ تَبْيِيضَ جِسْمٍ يُبَرِّدُهُ بِالْمَاءِ وَالْمَاءُ وَالنَّارُ مُتَضَادَّانِ إِذَا طُلِبَ مِنْهُ أَحَدُهُمَا وَشَرَعَ فِيهِ يَصِيرُ ذَلِكَ مَانِعًا لَهُ مِنْ فِعْلِ الْآخَرِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ الْفِعْلُ مَانِعًا مِنَ الْفِعْلِ لِأَنَّ تَسْوِيدَ جِسْمٍ وَتَبْيِيضَ آخَرَ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ تَسْخِينُهُ وَتَسْوِيدُهُ بِصَبْغَةٍ لَا تَنَافِيَ فِيهِ، فَالْفِعْلُ صَارَ مَانِعًا لِلْفَاعِلِ مِنْ فِعْلِهِ وَلَمْ يَصِرْ مَانِعًا مِنَ الْفِعْلِ، وَفِي حَقِّ اللَّهِ مَا لَا يَمْنَعُ الْفِعْلَ لَا يَمْنَعُ الْفَاعِلَ، فَيُوجِدُ تَعَالَى مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُخْتَلِفَةِ مَا لَا يُحْصَرُ وَلَا يُحْصَى فِي آنٍ وَاحِدٍ، أَمَّا مَا يُمْنَعُ مِنَ الْفِعْلِ كَالَّذِي يُسَوِّدُ جِسْمًا فِي آنٍ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يُبَيِّضَهُ فِي ذَلِكَ الْآنِ، فَهُوَ قَدْ يَمْنَعُ الْفَاعِلَ أَيْضًا وَقَدْ لَا يَمْنَعُ وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ مَنْعِهِ لِلْفَاعِلِ، فَالتَّسْوِيدُ لَا يُمْكِنُ مَعَهُ التَّبْيِيضُ، وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ أَصْلًا لَكِنَّ أَسْبَابَهُ تَمْنَعُ أَسْبَابًا أُخَرَ لَا تَمْنَعُ الْفَاعِلَ. إِذَا عَلِمْتَ هذا البحث فقد أفادك.

<<  <  ج: ص:  >  >>