مُعْتَبَرٍ، لِأَنَّهُ عِنْدَ الْمُعْتَبَرَينَ مِنَ الرِّجَالِ مَكْرُوهٌ، وَنَفْيُ الْمَكْرُوهِ لَا يُعَدُّ مِنَ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي مَرَّ ذِكْرُهَا، كَيْفَ وَقَدْ ذَكَرْتَ أَنَّ تَأْخِيرَ هَذِهِ النِّعْمَةِ لِكَوْنِهَا أَتَمَّ، وَلَوْ قَالَ: إِنَّ فُلَانًا فِي بَلْدَةِ كَذَا مُحْتَرَمٌ مُكَرَّمٌ لَا يُضْرَبُ وَلَا يُشْتَمُ فَهُوَ غَيْرُ مُكَرَّمٍ وَهُوَ مَذْمُومٌ وَالْوَاغِلُ مَذْمُومٌ وَهُوَ الَّذِي يَدْخُلُ عَلَى قَوْمٍ يَشْرَبُونَ وَيَأْكُلُونَ فَيَأْكُلُ وَيَشْرَبُ مَعَهُمْ مِنْ غَيْرِ دُعَاءٍ وَلَا إِذْنٍ فَكَأَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ فِي عَدَمِ الِاعْتِبَارِ كَلَامٌ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَهُوَ اللَّغْوُ، وَكَذَلِكَ مَا يَتَصَرَّفُ مِنْهُ مِثْلُ الْوُلُوغِ لَا يُقَالُ إِلَّا إِذَا كَانَ الْوَالِغُ كَلْبًا أَوْ مَا يُشْبِهُهُ مِنَ السِّبَاعِ، وَأَمَّا التَّأْثِيمُ فَهُوَ النِّسْبَةُ إِلَى الْإِثْمِ وَمَعْنَاهُ لَا يَذْكُرُ إِلَّا بَاطِلًا وَلَا يَنْسُبُهُ أَحَدٌ إِلَّا إِلَى الْبَاطِلِ، وَأَمَّا التَّقْدِيمُ فَلِأَنَّ اللَّغْوَ أَعَمُّ مِنَ التَّأْثِيمِ أَيْ يَجْعَلُهُ آثِمًا كَمَا تَقُولُ: إِنَّهُ فَاسِقٌ أَوْ سَارِقٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمُتَكَلِّمُ يَنْقَسِمُ إِلَى أَنْ يَلْغُوَ وَإِلَى أَنْ لَا يَلْغُوَ وَالَّذِي لَا يَلْغُو يَقْصِدُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَيَأْخُذُ النَّاسَ بِأَقْوَالِهِمْ وَهُوَ لَا يُؤْخَذُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَقَالَ/ تَعَالَى: لَا يَلْغُو أَحَدٌ وَلَا يَصْدُرُ مِنْهُ لَغْوٌ وَلَا مَا يُشْبِهُ اللَّغْوَ فَيَقُولُ لَهُ: الصَّادِقُ لَا يَلْغُو وَلَا يَأْثَمُ وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ الْبَاطِلَ أَقْبَحُ مَا يُشْبِهُهُ فَقَالَ:
لَا يَأْثَمُ أَحَدٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّبَأِ: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً [النبأ: ٣٥] فَهَلْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ؟ قُلْنَا: نَعَمْ الْكِذَّابُ كَثِيرُ التَّكْذِيبِ وَمَعْنَاهُ هُنَاكَ أَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ كَذِبًا وَلَا أَحَدًا يَقُولُ لِآخَرَ: كَذَبْتَ وَفَائِدَتُهُ أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ كَذِبًا مِنْ مُعَيَّنٍ مِنَ النَّاسِ وَلَا مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ غَيْرِ مُعَيَّنٍ لِتَفَاوُتِ حَالِهِمْ وَحَالِ الدُّنْيَا فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ بِأَعْيَانِهِمْ كَذَّابُونَ فَإِنْ لَمْ نَعْرِفْ ذَلِكَ نَقْطَعْ بِأَنَّ فِي النَّاسِ كَذَّابًا لِأَنَّ أَحَدَهُمْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: كَذَبْتَ فَإِنْ صَدَقَ فَصَاحِبُهُ كَذَّابٌ، وَإِنْ لَمْ يَصْدُقْ فَهُوَ كَاذِبٌ فَيَعْلَمُ أَنَّ فِي الدُّنْيَا كَذَّابًا بِعَيْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَلَا كَذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ فَلَا كَذِبَ فِيهَا، وقال هاهنا: وَلا تَأْثِيماً وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ التَّكْذِيبِ فَإِنَّ مَنْ يَقُولُ فِي حَقِّ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ: إِنَّهُ زَانٍ أَوْ شَارِبٌ الْخَمْرَ مَثَلًا فَإِنَّهُ يَأْثَمُ وَقَدْ يَكُونُ صَادِقًا، فَالَّذِي لَيْسَ عَنْ عِلْمٍ إِثْمٌ فَلَا يَقُولُ أَحَدٌ لِأَحَدٍ: قُلْتَ ما لا علم لك به فالكلام هاهنا أَبْلَغُ لِأَنَّهُ قَصَرَ السُّورَةَ عَلَى بَيَانِ أَحْوَالِ الْأَقْسَامِ لِأَنَّ الْمَذْكُورِينَ هُنَا هُمُ السَّابِقُونَ وَفِي سُورَةِ النَّبَأِ هُمُ الْمُتَّقُونَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ السَّابِقَ فَوْقَ الْمُتَّقِي.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِلَّا قِيلًا استثناء متصل أو مُنْقَطِعٌ، فَنَقُولُ: فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ السَّلَامَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ اللَّغْوِ تَقْدِيرُهُ لَكِنْ يَسْمَعُونَ قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا ثَانِيهِمَا: أَنَّهُ مُتَّصِلٌ وَوَجْهُهُ أَنْ نَقُولَ:
الْمَجَازُ قَدْ يَكُونُ فِي الْمَعْنَى، وَمِنْ جُمْلَتِهِ أَنَّكَ تقول: مالي ذنب إلا أُحِبُّكَ، فَلِهَذَا تُؤْذِينِي فَتَسْتَثْنِي مَحَبَّتَهُ مِنَ الذَّنْبِ وَلَا تُرِيدُ الْمُنْقَطِعَ لِأَنَّكَ لَا تُرِيدُ بِهَذَا الْقَوْلِ بَيَانَ أَنَّكَ تُحِبُّهُ إِنَّمَا تُرِيدُ فِي تَبْرِئَتِكَ عَنِ الذُّنُوبِ وَوَجْهُهُ هُوَ أَنَّ بَيْنَهُمَا غَايَةَ الْخِلَافِ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُتَوَسِّطَةٌ مِثَالُهُ: الْحَارُّ وَالْبَارِدُ وَبَيْنَهُمَا الْفَاتِرُ الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْحَارِّ مِنَ الْبَارِدِ وَأَقْرَبُ إِلَى الْبَارِدِ مِنَ الْحَارِّ، وَالْمُتَوَسِّطُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْبَارِدِ عِنْدَ النِّسْبَةِ إِلَى الْحَارِّ فَيُقَالُ: هَذَا بَارِدٌ وَيُخْبَرُ عَنْهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَارِدِ فَيُقَالُ: إِنَّهُ حَارٌّ، إذا ثبت هذا فنقول قول القائل: مالي ذَنْبٌ إِلَّا أَنِّي أُحِبُّكَ، مَعْنَاهُ لَا تَجِدُ مَا يُقَرِّبُ مِنَ الذَّنْبِ إِلَّا الْمَحَبَّةَ فَإِنَّ عِنْدِي أُمُورًا فَوْقَهَا إِذَا نَسَبْتَهَا إِلَى الذَّنْبِ تَجِدُ بَيْنَهَا غَايَةَ الْخِلَافِ فَيَكُونُ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: دَرَجَاتُ الْحُبِّ عِنْدِي طَاعَتُكَ وَفَوْقَهَا إِنَّ أَفْضَلَ جَانِبٍ أَقَلُّ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِكَ عَلَى جَانِبِ الْحِفْظِ لِرُوحِي، إِشَارَةً إِلَى الْمُبَالَغَةِ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ مُسْتَحْقَرًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا فَوْقَهُ فَقَوْلُهُ: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً أَيْ يَسْمَعُونَ فِيهَا كَلَامًا فَائِقًا عَظِيمَ الْفَائِدَةِ كَامِلَ اللَّذَّةِ أَدْنَاهَا وَأَقْرَبُهَا إِلَى اللَّغْوِ قَوْلُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ:
سَلَامٌ عَلَيْكَ فَلَا يَسْمَعُونَ مَا يَقْرُبُ مِنَ اللَّغْوِ إِلَّا سَلَامًا، فَمَا ظَنُّكَ بالذين يَبْعُدُ مِنْهُ كَمَا يَبْعُدُ الْمَاءُ الْبَارِدُ الصَّادِقُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute