للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كِتَابٍ، أَوِ الْمَظْرُوفَ كَرِيمٌ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ رَجُلٌ كَرِيمٌ فِي نَفْسِهِ، فَيَفْهَمُ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ الْقَائِلَ لَمْ يَجْعَلْهُ رَجُلًا مَظْرُوفًا فَإِنَّ الْقَائِلَ: لَمْ يُرِدْ أَنَّهُ رَجُلٌ فِي نَفْسِهِ قَاعِدٌ أَوْ نَائِمٌ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ كَرِيمٌ كَرَمُهُ فِي نَفْسِهِ، فَكَذَلِكَ قُرْآنٌ كَرِيمٌ فَالْقُرْآنُ كَرِيمٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَرِيمًا عِنْدَ الْكُفَّارِ ثَانِيهِمَا: الْمَظْرُوفُ هُوَ مَجْمُوعُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) أَيْ هُوَ كَذَا فِي كِتَابٍ كَمَا يُقَالُ: وَما أَدْراكَ مَا عِلِّيُّونَ [الْمُطَفِّفِينَ: ١٩] فِي كِتَابِ اللَّه تَعَالَى، وَالْمُرَادُ حِينَئِذٍ أَنَّهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ نَعْتُهُ مَكْتُوبٌ: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ وَالْكُلُّ صَحِيحٌ، وَالْأَوَّلُ أَبْلَغُ فِي التَّعْظِيمِ بِالْمَقْرُوءِ السَّمَاوِيِّ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مَا الْمُرَادُ مِنَ الْكِتَابِ؟ نَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [الْبُرُوجِ: ٢٠، ٢١] الثَّانِي: الْكِتَابُ هُوَ الْمُصْحَفُ الثَّالِثُ: كِتَابٌ مِنَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ فَهُوَ قُرْآنٌ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَغَيْرِهِمَا فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ سُمِّيَ الْكِتَابُ كِتَابًا وَالْكِتَابُ فِعَالٌ، وَهُوَ إِذَا كَانَ لِلْوَاحِدِ فَهُوَ إِمَّا مَصْدَرٌ كَالْحِسَابِ وَالْقِيَامِ وَغَيْرِهِمَا، أَوِ اسْمٌ لِمَا يُكْتَبُ كَاللِّبَاسِ وَاللِّثَامِ وَغَيْرِهِمَا، فَكَيْفَمَا كَانَ فَالْقُرْآنُ لَا يَكُونُ فِي كِتَابٍ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ، وَلَا يَكُونُ فِي مَكْتُوبٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مَكْتُوبًا فِي لَوْحٍ أَوْ وَرَقٍ، فَالْمَكْتُوبُ لَا يَكُونُ فِي الْكِتَابِ، إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْقِرْطَاسِ، نَقُولُ: مَا ذَكَرْتَ مِنَ الْمَوَازِينِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَ لَيْسَ الْمَكْتُوبَ وَلَا هُوَ الْمَكْتُوبَ فِيهِ أَوِ الْمَكْتُوبَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ اللِّثَامَ مَا يُلْثَمُ بِهِ، وَالصِّوَانَ مَا يُصَانُ فِيهِ الثَّوْبُ، لَكِنَّ اللَّوْحَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ إِلَّا الَّذِي يُكْتَبُ فِيهِ صَحَّ تَسْمِيَتُهُ كِتَابًا.

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْمَكْتُوبُ هُوَ الْمَسْتُورُ قَالَ اللَّه تَعَالَى: كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ [الْوَاقِعَةِ: ٢٣] ، قَالَ:

بَيْضٌ/ مَكْنُونٌ [الصَّافَّاتِ: ٤٩] فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْكِتَابِ اللَّوْحَ فَهُوَ لَيْسَ بِمَسْتُورٍ وَإِنَّمَا الشَّيْءُ فِيهِ مَنْشُورٌ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ هُوَ الْمُصْحَفَ فَعُدِمَ كَوْنُهُ مَكْتُوبًا مَسْتُورًا، فَكَيْفَ الْجَوَابُ عَنْهُ؟ فَنَقُولُ: الْمَكْنُونُ الْمَحْفُوظُ إِذَا كَانَ غَيْرَ عَزِيزٍ يُحْفَظُ بِالْعَيْنِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ لِلنَّاسِ فَإِذَا كَانَ شَرِيفًا عَزِيزًا لَا يُكْتَفَى بِالصَّوْنِ وَالْحِفْظِ بِالْعَيْنِ بَلْ يُسْتَرُ عَنِ الْعُيُونِ، ثُمَّ كَلَّمَا تَزْدَادُ عِزَّتُهُ يَزْدَادُ سَتْرُهُ فَتَارَةً يَكُونُ مَخْزُونًا ثُمَّ يُجْعَلُ مَدْفُونًا، فَالسَّتْرُ صَارَ كَاللَّازِمِ لِلصَّوْنِ الْبَالِغِ فَقَالَ: مَكْنُونٍ أَيْ مَحْفُوظٍ غَايَةَ الْحِفْظِ، فَذَكَرَ اللَّامَ وَأَرَادَ الْمَلْزُومَ وَهُوَ بَابٌ مِنَ الْكَلَامِ الْفَصِيحِ تَقُولُ مَثَلًا: فُلَانٌ كِبْرِيتٌ أَحْمَرُ، أَيْ قَلِيلُ الْوُجُودِ وَالْجَوَابُ الثَّانِي: إِنَّ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ مَسْتُورٌ عَنِ الْعَيْنِ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلَّا مَلَائِكَةٌ مَخْصُوصُونَ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ إِلَّا قَوْمٌ مُطَهَّرُونَ، وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَهُوَ مَكْتُوبٌ مَسْتُورٌ أَبَدَ الدَّهْرِ عَنْ أَعْيُنِ الْمُبَدِّلِينَ، مَصُونٌ عَنْ أَيْدِي الْمُحَرِّفِينَ، فَإِنْ قِيلَ: فَمَا فَائِدَةُ كَوْنِهِ فِي كِتابٍ وَكُلُّ مَقْرُوءٍ فِي كِتَابٍ؟ نَقُولُ: هُوَ لِتَأْكِيدِ الرَّدِّ عَلَى الْكُفَّارِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّهُ مُخْتَرَعٌ مِنْ عِنْدِهِ مُفْتَرًى، فَلَمَّا قَالَ: مَقْرُوءٌ عَلَيْهِ انْدَفَعَ كَلَامُهُمْ، ثُمَّ إِنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ كَانَ مَقْرُوءًا عَلَيْهِ فَهُوَ كَلَامُ الْجِنِّ فَقَالَ: فِي كِتابٍ أَيْ لَمْ يَنْزِلْ بِهِ عَلَيْهِ الملك إلا بعدم أَخَذَهُ مِنْ كِتَابٍ فَهُوَ لَيْسَ بِكَلَامِ الْمَلَائِكَةِ فَضْلًا أَنْ يَكُونَ كَلَامَ الْجِنِّ، وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا: إِذَا كَانَ كَرِيمًا فَهُوَ فِي كِتَابٍ، فَفَائِدَتُهُ ظَاهِرَةٌ، وَأَمَّا فَائِدَةُ كَوْنِهِ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ فَيَكُونُ رَدًّا عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ فِي كُتُبٍ ظَاهِرَةٍ، أَيْ فَلِمَ لَا يُطَالِعُهَا الْكُفَّارُ، وَلِمَ لَا يَطَّلِعُونَ عَلَيْهِ لَا بَلْ هُوَ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، فإذا بين فِيمَا ذَكَرْنَا أَنَّ وَصْفَهُ بِكَوْنِهِ قُرْآنًا صَارَ رَدًّا عَلَى مَنْ قَالَ: يَذْكُرُهُ مِنْ عِنْدِهِ، وَقَوْلُهُ: فِي كِتابٍ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ: يَتْلُوهُ عَلَيْهِ الْجِنُّ حَيْثُ اعْتَرَفَ بِكَوْنِهِ مَقْرُوءًا وَنَازَعَ فِي شَيْءٍ آخَرَ، وَقَوْلُهُ: مَكْنُونٍ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ:

إِنَّهُ مَقْرُوءٌ فِي كِتَابٍ لَكِنَّهُ مِنْ أَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>