للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَثَبَتَ أَنَّ تَقَدُّمَ الصَّانِعِ عَلَى كُلِّ مَا عَدَاهُ لَيْسَ بِالزَّمَانِ الْبَتَّةَ، فَإِذَنِ الَّذِي عِنْدَ الْعَقْلِ أَنَّهُ مُتَقَدِّمٌ عَلَى كُلِّ مَا عَدَاهُ، أَنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ التَّقَدُّمَ عَلَى أَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ/ الْخَمْسَةِ، فَبَقِيَ أَنَّهُ نَوْعٌ آخَرُ مِنَ التَّقَدُّمِ يُغَايِرُ هَذِهِ الْأَقْسَامَ الْخَمْسَةَ، فَأَمَّا كَيْفِيَّةُ ذَلِكَ التَّقَدُّمِ فَلَيْسَ عِنْدَ الْعَقْلِ مِنْهَا خَبَرٌ، لِأَنَّ كُلَّ مَا يَخْطُرُ بِبَالِ الْعَقْلِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ حَالٌ مِنَ الزَّمَانِ، وَقَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مُحَالٌ، فَإِذَنْ كَوْنُهُ تَعَالَى أَوَّلًا مَعْلُومٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، فَأَمَّا عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ وَالْإِحَاطَةِ بِحَقِيقَةِ تِلْكَ الْأَوَّلِيَّةِ، فَلَيْسَ عِنْدَ عُقُولِ الخلق منه أثر.

النوع الثاني: من هذا غوامض الموضع، وهو أن الأزل متقدم على اللايزال، وَلَيْسَ الْأَزَلُ شَيْئًا سِوَى الْحَقِّ، فَتَقَدُّمُ الْأَزَلِ على اللايزال، يستدعي الامتياز بين الأزل وبين اللايزال، فهذا يقتضي أن يكون اللايزال لَهُ مَبْدَأٌ وَطَرَفٌ، حَتَّى يَحْصُلَ هَذَا الِامْتِيَازُ، لَكِنَّ فَرْضَ هَذَا الطَّرَفِ مُحَالٌ، لِأَنَّ كُلَّ مبدأ فرضته، فإن اللايزال، كَانَ حَاصِلًا قَبْلَهُ، لِأَنَّ الْمَبْدَأَ الَّذِي يُفْرَضُ قَبْلَ ذَلِكَ الطَّرَفِ الْمَفْرُوضِ بِزِيَادَةِ مِائَةِ سَنَةٍ، يكون من جملة اللايزال، لَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَزَلِ، فَقَدْ كَانَ مَعْنَى اللايزال مَوْجُودًا قَبْلَ أَنْ كَانَ مَوْجُودًا وَذَلِكَ مُحَالٌ.

النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنْ غَوَامِضِ هَذَا الْمَوْضُوعِ، أَنَّ امتياز الأزل عن اللايزال، يَسْتَدْعِي انْقِضَاءَ حَقِيقَةِ الْأَزَلِ، وَانْقِضَاءُ حَقِيقَةِ الْأَزَلِ محال، لأن مالا أَوَّلَ لَهُ يَمْتَنِعُ انْقِضَاؤُهُ، وَإِذَا امْتَنَعَ انْقِضَاؤُهُ امتنع أن يحصل عقيبه ماهية اللايزال، فإذن يمتنع امتياز الأزل عن اللايزال، وامتياز اللايزال عن الأزال، وَإِذَا امْتَنَعَ حُصُولُ هَذَا الِامْتِيَازِ امْتَنَعَ حُصُولُ التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ، فَهَذِهِ أَبْحَاثٌ غَامِضَةٌ فِي حَقِيقَةِ التَّقَدُّمِ وَالْأَوَّلِيَّةِ وَالْأَزَلِيَّةِ، وَمَا هِيَ إِلَّا بِسَبَبِ حَيْرَةِ الْعُقُولِ الْبَشَرِيَّةِ فِي نُورِ جَلَالِ مَاهِيَّةِ الْأَزَلِيَّةِ وَالْأَوَّلِيَّةِ، فَإِنَّ الْعَقْلَ إِنَّمَا يَعْرِفُ الشَّيْءَ إِذَا أَحَاطَ بِهِ، وَكُلُّ مَا اسْتَحْضَرَهُ الْعَقْلُ، وَوَقَفَ عَلَيْهِ فَذَاكَ يَصِيرُ مُحَاطًا بِهِ، وَالْمُحَاطُ يَكُونُ مُتَنَاهِيًا، وَالْأَزَلِيَّةُ تَكُونُ خَارِجَةً عَنْهُ، فَهُوَ سُبْحَانُهُ ظَاهِرٌ بَاطِنٌ فِي كَوْنِهِ أَوَّلًا، لِأَنَّ الْعُقُولَ شَاهِدَةٌ بِإِسْنَادِ الْمُحْدَثَاتِ إِلَى مُوجِدٍ مُتَقَدِّمٍ عَلَيْهَا فَكَوْنُهُ تَعَالَى أَوَّلًا أَظْهَرُ مِنْ كُلِّ ظَاهِرٍ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، ثُمَّ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ حَقِيقَةَ تِلْكَ الْأَوَّلِيَّةِ عَجَزْتَ لِأَنَّ كُلَّ مَا أَحَاطَ بِهِ عَقْلُكَ وَعِلْمُكَ فَهُوَ مَحْدُودُ عَقْلِكَ وَمُحَاطُ عِلْمِكَ فَيَكُونُ مُتَنَاهِيًا، فَتَكُونُ الْأَوَّلِيَّةُ خَارِجَةً عَنَّا، فَكَوْنُهُ تَعَالَى أَوَّلًا إِذَا اعْتَبَرْتَهُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ كَانَ أَبْطَنَ مِنْ كُلِّ بَاطِنٍ، فَهَذَا هُوَ الْبَحْثُ عَنْ كَوْنِهِ تَعَالَى أَوَّلًا.

أَمَّا الْبَحْثُ عَنْ كَوْنِهِ آخِرًا، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: هَذَا مُحَالٌ، لِأَنَّهُ تعالى إنما يكون آخر الكل مَا عَدَاهُ، لَوْ بَقِيَ هُوَ مَعَ عَدَمِ كُلِّ مَا عَدَاهُ لَكِنَّ عَدَمَ مَا عَدَاهُ إنما يكون بعده وُجُودِهِ، وَتِلْكَ الْبَعْدِيَّةُ، زَمَانِيَّةٌ، فَإِذَنْ لَا يُمْكِنُ فرض عدم كل عَدَاهُ إِلَّا مَعَ وُجُودِ الزَّمَانِ الَّذِي بِهِ تَتَحَقَّقُ تِلْكَ الْبَعْدِيَّةُ، فَإِذَنْ حَالُ مَا فُرِضَ عَدَمُ كُلِّ مَا عَدَاهُ، أَنْ لَا يُعْدَمَ كُلُّ مَا عَدَاهُ، فَهَذَا خُلْفٌ، فَإِذَنْ فَرْضُ بَقَائِهِ مَعَ عَدَمِ كُلِّ مَا عَدَاهُ مُحَالٌ، وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ مَبْنِيَّةٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّ التَّقَدُّمَ وَالتَّأَخُّرَ لَا يَتَقَرَّرَانِ إِلَّا بِالزَّمَانِ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى فَسَادِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ فَبَطَلَتْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ، وَأَمَّا الَّذِينَ سَلَّمُوا إِمْكَانَ عَدَمِ كُلِّ مَا عَدَاهُ مَعَ بَقَائِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ ذَلِكَ حَتَّى يَتَقَرَّرَ كَوْنُهُ تَعَالَى آخِرًا لِلْكُلِّ، وَهَذَا مَذْهَبُ جَهْمٍ، فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ/ سُبْحَانَهُ يُوصِلُ الثَّوَابَ إِلَى أَهْلِ الثَّوَابِ، وَيُوصِلُ الْعِقَابَ إِلَى أَهْلِ الْعِقَابِ، ثُمَّ يُفْنِي الْجَنَّةَ وَأَهْلَهَا، وَالنَّارَ وَأَهْلَهَا، وَالْعَرْشَ وَالْكُرْسِيَّ وَالْمَلَكَ وَالْفَلَكَ، وَلَا يَبْقَى مَعَ اللَّه شَيْءٌ أَصْلًا، فَكَمَا أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْأَزَلِ وَلَا شَيْءَ يَبْقَى مَوْجُودًا في اللايزال أَبَدَ الْآبَادِ وَلَا شَيْءَ، وَاحْتُجَّ عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ هُوَ الْآخِرُ، يَكُونُ آخِرًا إِلَّا عِنْدَ فَنَاءِ الْكُلِّ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِعَدَدِ حَرَكَاتِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، أَوْ لَا يَكُونُ عَالِمًا بِهَا، فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِهَا كَانَ عَالِمًا بِكَمِّيَّتِهَا، وَكُلُّ ماله عَدَدٌ مُعَيَّنٌ فَهُوَ مُتَنَاهٍ، فَإِذَنْ حَرَكَاتُ أَهْلِ الجنة

<<  <  ج: ص:  >  >>