للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلِذَلِكَ

قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لِيَلِيَنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى»

وَلِذَلِكَ كَانَ يُقَدِّمُ الْأَفَاضِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَكَانُوا لِكَثْرَتِهِمْ يَتَضَايَقُونَ، فَأُمِرُوا بِالتَّفَسُّحِ إِذَا أَمْكَنَ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَدْخَلُ فِي التَّحَبُّبِ، وَفِي الِاشْتِرَاكِ فِي سَمَاعِ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الدِّينِ، وَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ فِي مَجْلِسِهِ، فَحَالَ الْجِهَادُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ أَوْلَى، لِأَنَّ الشَّدِيدَ الْبَأْسِ قَدْ يَكُونُ مُتَأَخِّرًا عَنِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ، وَالْحَاجَةُ إِلَى تَقَدُّمِهِ مَاسَّةٌ فَلَا بُدَّ مِنَ التَّفَسُّحِ، ثُمَّ يُقَاسُ عَلَى هَذَا سَائِرُ مَجَالِسِ الْعِلْمِ وَالذِّكْرِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ فَهُوَ مُطْلَقٌ فِي كُلِّ مَا يَطْلُبُ النَّاسُ الْفُسْحَةَ فِيهِ مِنَ الْمَكَانِ وَالرِّزْقِ وَالصَّدْرِ وَالْقَبْرِ وَالْجَنَّةِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ وَسَّعَ عَلَى عِبَادِ اللَّه أَبْوَابَ الْخَيْرِ وَالرَّاحَةِ، وَسَّعَ اللَّه عَلَيْهِ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يُقَيِّدَ الْآيَةَ بِالتَّفَسُّحِ فِي الْمَجْلِسِ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ إِيصَالُ الْخَيْرِ إِلَى الْمُسْلِمِ، وَإِدْخَالُ السُّرُورِ فِي قَلْبِهِ، وَلِذَلِكَ

قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يَزَالُ اللَّه فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا زَالَ الْعَبْدُ فِي عون أخيه المسلم» .

[في قوله تعالى وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا إلى قوله وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ/ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إذا قيل لكم: ارفعوا فَارْتَفِعُوا، وَاللَّفْظُ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: إِذَا قِيلَ لَكُمْ: قُومُوا لِلتَّوْسِعَةِ عَلَى الدَّاخِلِ، فَقُومُوا وَثَانِيهَا: إِذَا قِيلَ: قُومُوا مِنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا تُطَوِّلُوا فِي الْكَلَامِ، فَقُومُوا وَلَا تَرْكُزُوا مَعَهُ، كَمَا قَالَ: وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ [الْأَحْزَابِ: ٥٣] وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ وَثَالِثُهَا: إِذَا قِيلَ لَكُمْ: قُومُوا إِلَى الصَّلَاةِ وَالْجِهَادِ وَأَعْمَالِ الْخَيْرِ وَتَأَهَّبُوا لَهُ، فَاشْتَغِلُوا بِهِ وَتَأَهَّبُوا لَهُ، وَلَا تَتَثَاقَلُوا فِيهِ، قَالَ الضَّحَّاكُ وَابْنُ زَيْدٍ: إِنَّ قَوْمًا تَثَاقَلُوا عَنِ الصَّلَاةِ، فَأُمِرُوا بِالْقِيَامِ لَهَا إِذَا نُودِيَ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ: انْشُزُوا بِكَسْرِ الشِّينِ وَبِضَمِّهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْلُ: يَعْكُفُونَ ويعكفون [الأعراف: ١٣٨] ، ويَعْرِشُونَ ويعرشون [الأعراف: ١٣٧] .

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَهَاهُمْ أَوَّلًا عَنْ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ ثَانِيًا بِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ وَعَدَهُمْ عَلَى الطَّاعَاتِ، فَقَالَ: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ أَيْ يَرْفَعُ اللَّه الْمُؤْمِنِينَ بِامْتِثَالِ أَوَامِرِ رَسُولِهِ، وَالْعَالِمِينَ مِنْهُمْ خَاصَّةً دَرَجَاتٍ، ثُمَّ فِي الْمُرَادِ مِنْ هَذِهِ الرِّفْعَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْقَوْلُ النَّادِرُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الرِّفْعَةُ فِي مَجْلِسِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالثَّانِي: وَهُوَ الْقَوْلُ الْمَشْهُورُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الرِّفْعَةُ فِي دَرَجَاتِ الثَّوَابِ، وَمَرَاتِبِ الرِّضْوَانِ.

وَاعْلَمْ أَنَّا أَطْنَبْنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [الْبَقَرَةِ: ٣١] فِي فَضِيلَةِ الْعِلْمِ، وَقَالَ الْقَاضِي: لَا شُبْهَةَ أَنَّ علم العالم يقتضي لطاعته من المنزلة مالا يحصل للمؤمن، ولذلك فإنه يقتدي بالعلم فِي كُلِّ أَفْعَالِهِ، وَلَا يُقْتَدَى بِغَيْرِ الْعَالِمِ، لِأَنَّهُ يَعْلَمُ مِنْ كَيْفِيَّةِ الِاحْتِرَازِ عَنِ الْحَرَامِ والشبهات، ومحاسبة النفس مالا يَعْرِفُهُ الْغَيْرُ، وَيَعْلَمُ مِنْ كَيْفِيَّةِ الْخُشُوعِ وَالتَّذَلُّلِ في العبادة مالا يَعْرِفُهُ غَيْرُهُ، وَيَعْلَمُ مِنْ كَيْفِيَّةِ التَّوْبَةِ وَأَوْقَاتِهَا وصفاتها مالا يَعْرِفُهُ غَيْرُهُ، وَيَتَحَفَّظُ فِيمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْحُقُوقِ مالا يَتَحَفَّظُ مِنْهُ غَيْرُهُ، وَفِي الْوُجُوهِ كَثْرَةٌ، لَكِنَّهُ كما

<<  <  ج: ص:  >  >>