الْمُفَادَاةِ لِأَنَّ الْبَاذِلَ عَنِ الْأَسِيرِ يُوصَفُ بِأَنَّهُ فَادَاهُ وَالْآخِذَ مِنْهُ لِلتَّخْلِيصِ يُوصَفُ أَيْضًا بِذَلِكَ، إِلَّا أَنَّ الَّذِي أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَيْهِ أَقْرَبُ، لِأَنَّ عَوْدَ قَوْلِهِ: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَوْلَى مِنْ عَوْدِهِ إِلَى أُمُورٍ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا بَعْدَ آيَاتٍ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: الَّذِينَ أُخْرِجُوا وَالَّذِينَ فُودُوا فَرِيقٌ وَاحِدٌ، وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرَ كَانَا أَخَوَيْنِ كَالْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، فَافْتَرَقُوا فَكَانَتِ النَّضِيرُ مَعَ الْخَزْرَجِ وَقُرَيْظَةُ مَعَ الْأَوْسِ. فَكَانَ كُلُّ فَرِيقٍ يُقَاتِلُ مَعَ حُلَفَائِهِ وَإِذَا غَلَبُوا خَرَّبُوا دِيَارَهُمْ وَأَخْرَجُوهُمْ وَإِذَا أُسِرَ رَجُلٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ جَمَعُوا لَهُ حَتَّى يَفْدُوهُ، فَعَيَّرَتْهُمُ الْعَرَبُ وَقَالُوا: كَيْفَ تُقَاتِلُونَهُمْ ثُمَّ تَفْدُونَهُمْ فَيَقُولُونَ: أُمِرْنَا أَنْ نَفْدِيَهُمْ وَحُرِّمَ عَلَيْنَا قِتَالُهُمْ، وَلَكِنَّا نَسْتَحِي أَنْ نُذِلَّ حُلَفَاءَنَا، وَقَالَ آخَرُونَ: لَيْسَ الَّذِينَ أَخْرَجُوهُمْ فُودُوا وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ آخَرُونَ فَعَابَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ فَفِي قَوْلِهِ: وَهُوَ وَجْهَانِ، الْأَوَّلُ: أَنَّهُ ضَمِيرُ الْقِصَّةِ وَالشَّأْنِ كَأَنَّهُ قِيلَ وَالْقِصَّةُ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ، الثَّانِي: أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِخْرَاجِ أُعِيدَ ذِكْرُهُ تَوْكِيدًا لِأَنَّهُ فَصَلَ بَيْنَهُمَا بِكَلَامٍ فَمَوْضِعُهُ عَلَى هَذَا رَفْعٌ كَأَنَّهُ قِيلَ وَإِخْرَاجُهُمْ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ، ثُمَّ أُعِيدَ ذِكْرُ إِخْرَاجِهِمْ مُبَيِّنًا لِلْأَوَّلِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا:
إِخْرَاجُهُمْ كُفْرٌ، وَفِدَاؤُهُمْ إِيمَانٌ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَقَتَادَةَ وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَلَمْ يَذُمَّهُمْ عَلَى الْفِدَاءِ، وَإِنَّمَا ذَمَّهُمْ عَلَى الْمُنَاقَضَةِ إِذْ أَتَوْا بِبَعْضِ الْوَاجِبِ وَتَرَكُوا الْبَعْضَ، وَقَدْ تَكُونُ الْمُنَاقَضَةُ أَدْخَلَ فِي الذَّمِّ لَا يُقَالُ هَبْ أَنَّ ذَلِكَ الْإِخْرَاجَ مَعْصِيَةٌ، فَلِمَ سَمَّاهَا كُفْرًا مَعَ أَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ الْعَاصِيَ لَا يَكْفُرُ، لِأَنَّا نَقُولُ لَعَلَّهُمْ صَرَّحُوا أَنَّ ذَلِكَ الْإِخْرَاجَ غَيْرُ وَاجِبٍ/ مَعَ أَنَّ صَرِيحَ التَّوْرَاةِ كَانَ دَالًّا عَلَى وجوبه. وثالثها: الْمُرَادُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُمْ فِي تَمَسُّكِهِمْ بِنُبُوَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ التَّكْذِيبِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَنَّ الْحُجَّةَ فِي أَمْرِهِمَا عَلَى سَوَاءٍ يَجْرِي مَجْرَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ مِنْهُمْ فِي أَنْ يُؤْمِنُوا بِبَعْضٍ وَيَكْفُرُوا بِبَعْضٍ وَالْكُلُّ فِي الْمِيثَاقِ سَوَاءٌ.
أَمَّا قَوْلُهُ تعالى: إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَأَصْلُ الْخِزْيِ الذُّلُّ وَالْمَقْتُ. يُقَالُ: أَخْزَاهُ اللَّهُ، إِذَا مَقَتَهُ وَأَبْعَدَهُ، وَقِيلَ: أَصْلُهُ الِاسْتِحْيَاءُ، فَإِذَا قِيلَ: أَخْزَاهُ اللَّهُ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَوْقَعَهُ مَوْقِعًا يُسْتَحَيَا مِنْهُ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمُرَادُ مِنْهُ الذَّمُّ الْعَظِيمُ، وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْخِزْيِ عَلَى وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: قَالَ الْحَسَنُ: الْمُرَادُ الْجِزْيَةُ وَالصَّغَارُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ كَانَتْ ثَابِتَةً فِي شَرِيعَتِهِمْ، بَلْ إِنْ حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَحَّ هَذَا الْوَجْهُ، لِأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ الْخِزْيِ الْوَاقِعِ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ أَخْذَ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ. وَثَانِيهَا: إِخْرَاجُ بَنِي النَّضِيرِ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَقَتْلُ بَنِي قُرَيْظَةَ وَسَبْيُ ذَرَارِيهِمْ، وَهَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى الْحَاضِرِينَ فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَثَالِثُهَا: وَهُوَ الْأَوْلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الذَّمُّ الْعَظِيمُ وَالتَّحْقِيرُ الْبَالِغُ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصِ ذَلِكَ بِبَعْضِ الْوُجُوهِ دُونَ بَعْضٍ وَالتَّنْكِيرُ فِي قَوْلِهِ: «خِزْيٌ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الذَّمَّ وَاقِعٌ فِي النِّهَايَةِ الْعُظْمَى.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ فَفِيهِ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّ عَذَابَ الدَّهْرِيَّةِ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ الصَّانِعَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَشَدَّ مِنْ عَذَابِ الْيَهُودِ، فَكَيْفَ قَالَ فِي حَقِّ الْيَهُودِ: يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَالْجَوَابُ: الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ أَشَدُّ مِنَ الْخِزْيِ الْحَاصِلِ فِي الدُّنْيَا، فَلَفْظُ «الْأَشَدِّ» وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ أَشَدُّ مِنْ هَذِهِ الجهة.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute