تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا [النَّبَأِ: ٣٨] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ اللَّهَ فِي مَكَانٍ، إِمَّا فِي الْعَرْشِ أَوْ فَوْقَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ ذُو الْمَعَارِجِ وَهُوَ إِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي جِهَةِ فَوْقٍ وَالثَّانِي:
قَوْلُهُ: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فَبَيَّنَ أَنَّ عُرُوجَ الْمَلَائِكَةِ وَصُعُودَهُمْ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَهُ تَعَالَى فِي جِهَةِ فَوْقٍ وَالْجَوَابُ: لَمَّا دَلَّتِ الدَّلَائِلُ عَلَى امْتِنَاعِ كَوْنِهِ فِي الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ، فَأَمَّا وَصْفُ اللَّهِ بِأَنَّهُ ذُو الْمَعَارِجِ فَقَدْ ذَكَرْنَا الْوُجُوهَ فِيهِ، وَأَمَّا حَرْفُ (إِلَى) فِي قَوْلِهِ: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمَكَانَ بَلِ الْمُرَادُ انْتِهَاءُ الْأُمُورِ إِلَى مُرَادِهِ كَقَوْلِهِ: وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ [هُودٍ: ١٢٣] الْمُرَادُ الِانْتِهَاءُ إِلَى مَوْضِعِ الْعِزِّ وَالْكَرَامَةِ كَقَوْلِهِ: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي [الصَّافَّاتِ: ٩٩] وَيَكُونُ هَذَا إِشَارَةً إِلَى أَنَّ دَارَ الثَّوَابِ أَعْلَى الْأَمْكِنَةِ وَأَرْفَعُهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: فِي يَوْمٍ مِنْ صِلَةِ قوله تَعْرُجُ، أَيْ يَحْصُلُ الْعُرُوجُ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: بَلْ هَذَا مِنْ صِلَةِ قوله: بِعَذابٍ واقِعٍ [المعارج: ١] وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ وَالتَّقْدِيرُ: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ، فَذَلِكَ الْيَوْمُ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْآخِرَةِ أَوْ فِي الدُّنْيَا، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ فِي الْآخِرَةِ، فَذَلِكَ الطُّولُ إِمَّا أن يكون واقعا، وإما أن يكون مقدارا فَهَذِهِ هِيَ الْوُجُوهُ الَّتِي تَحْمِلُهَا هَذِهِ الْآيَةُ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ تَفْصِيلَهَا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ ذَلِكَ الْعُرُوجَ يَقَعُ فِي يَوْمٍ مِنَ أَيَّامِ الْآخِرَةِ طُولُهُ خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ: قَالَ وَلَيْسَ يَعْنِي أَنَّ مِقْدَارَ طُولِهِ هَذَا فَقَطْ، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَحَصَلَتْ لَهُ غَايَةٌ وَلَفَنِيَتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ عِنْدَ تِلْكَ الْغَايَةِ وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ مَوْقِفَهُمْ لِلْحِسَابِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَةٍ مِنْ سِنِيِّ الدُّنْيَا. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَسْتَقِرُّ أَهْلُ النَّارِ فِي دَرَكَاتِ النِّيرَانِ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الطُّولَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي حَقِّ الْكَافِرِ، أَمَّا فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ فَلَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَالْخَبَرُ، أَمَّا الْآيَةُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الْفُرْقَانِ: ٢٤] وَاتَّفَقُوا عَلَى [أَنَّ] ذَلِكَ [الْمَقِيلَ وَالْمُسْتَقَرَّ] هُوَ/ الْجَنَّةُ وَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَا
رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قال: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا طُولُ هَذَا الْيَوْمِ؟ فَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ لَيُخَفَّفُ عَنِ الْمُؤْمِنِ حَتَّى يَكُونَ عَلَيْهِ أَخَفَّ مِنْ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ يُصَلِّيهَا فِي الدُّنْيَا»
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ الْمَوْقِفَ وَإِنْ طَالَ فَهُوَ يَكُونُ سَبَبًا لِمَزِيدِ السُّرُورِ وَالرَّاحَةِ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ، وَيَكُونُ سَبَبًا لِمَزِيدِ الْحُزْنِ وَالْغَمِّ لِأَهْلِ النَّارِ الْجَوَابُ: عَنْهُ أَنَّ الْآخِرَةَ دَارُ جَزَاءٍ فَلَا بُدَّ مِنَ أَنْ يُعَجَّلَ لِلْمُثَابِينَ ثَوَابُهُمْ، وَدَارُ الثَّوَابِ هِيَ الْجَنَّةُ لَا الْمَوْقِفُ، فَإِذَنْ لَا بُدَّ مِنْ تَخْصِيصِ طُولِ الْمَوْقِفِ بِالْكُفَّارِ الْقَوْلُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ وَاقِعَةٌ فِي الْآخِرَةِ، لَكِنْ عَلَى سَبِيلِ التَّقْدِيرِ لَا عَلَى سَبِيلِ التَّحَقُّقِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَوِ اشْتَغَلَ بِذَلِكَ الْقَضَاءِ وَالْحُكُومَةِ أَعْقَلُ الْخَلْقِ وَأَذْكَاهُمْ لَبَقِيَ فِيهِ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يُتَمِّمُ ذَلِكَ الْقَضَاءَ وَالْحُكُومَةَ فِي مِقْدَارِ نِصْفِ يَوْمٍ مِنَ أَيَّامِ الدُّنْيَا، وَأَيْضًا الْمَلَائِكَةُ يَعْرُجُونَ إِلَى مَوَاضِعَ لَوْ أَرَادَ وَاحِدٌ مِنَ أَهْلِ الدُّنْيَا أَنْ يَصْعَدَ إِلَيْهَا لَبَقِيَ فِي ذَلِكَ الصُّعُودِ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ثُمَّ إِنَّهُمْ يَصْعَدُونَ إِلَيْهَا فِي سَاعَةٍ قَلِيلَةٍ، وَهَذَا قَوْلُ وَهْبٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ: إِنَّ هَذَا الْيَوْمَ هُوَ يَوْمُ الدُّنْيَا كُلِّهَا مِنَ أَوَّلِ مَا خَلَقَ اللَّهُ إِلَى آخِرِ الْفَنَاءِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي يَوْمِ الدُّنْيَا مِنْ عُرُوجِ الْمَلَائِكَةِ وَنُزُولِهِمْ، وَهَذَا الْيَوْمُ مُقَدَّرٌ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، ثُمَّ لَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ يَصِيرَ وَقْتُ الْقِيَامَةِ مَعْلُومًا، لِأَنَّا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute